يقول أحد الحكماء المعاصرين : إن ما نجيد معرفته هو ما نجيد الحديث عنه . والحديث المقصود هنا هو تلك الكلمات التي نصف بها الأشياء بناء على صورتها في أذهاننا , تلك الصورة التي يكوِّنها واقع الأشياء من حولنا وقدرتنا على التخيل والاستنتاج .الداعي إلى هذا المقال حدثان منفصلان يبدوان غير مترابطين إلا أن بينهما صلة يلحظها المدقق في واقع الأمور , خلاصتها أن هناك مشكلة نعانيها نحن معشر العرب المعاصرين في ربط تلك السلسلة المفترضة لتكوين الأفكار واتخاذ المواقف , الواقع .. الذهن .. الوصف بالكلمات , مشكلة ضخمة ينبني عليها جزء عظيم من تخلفنا وتراجعنا .
فقد كشف البيت الأبيض عن وثيقة سرية يعود تاريخها إلى العام 2004 وصف فيها وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد المسلمين بالخمول والكسل , وقال إن اعتمادهم على الثروة النفطية جعلهم يأنفون من ممارسة العمل الجسدي ويستقدمون عمالة أجنبية من الهند وكوريا وغيرهما بينما أبناؤهم خاملون عاطلون عن العمل .
واللافت في الأمر ليس تصريحات رامسفيلد التي لا يشك منصف في صحتها إذا طُبِقَتْ على مناطق معينة في العالم الإسلامي ولم تُترك هكذا مطلقة شاملة , لكن الملفت هو طريقة ردة الفعل والكتابات التي اعتبرت التصريحات اهانة ما بعدها اهانة ورامسفيلد متجنيا علينا بل ممارسا أحقاده الدفينة , هذا هو كل ما فهمه أو أراد أن يفهمه أصحاب رد الفعل الذين تغاضوا عن مكامن الداء وظنوا أن الرجل قد هبط بفكرته هذه من المريخ هادفا من خلالها إلى تشويه صورتنا والنيل من كرامتنا .
هذا الكلام الذي احتوته ردود الأفعال بني على أفكار بينها وبين الواقع الحقيقي بون شاسع ومعظم أصحابها قد أغضوا الطرف عن الحقيقة المرة والواقع الذي يؤكد كل كلمة قالها رامسفيلد , فبقي الواقع وسيبقى إلى ما شاء الله كما هو , دون تغيير أو تبديل , أما خطبنا المنبرية فسيهدر أصحابها ويرغون ويزبدون دون أن يقدموا شيئا لأنهم لا يجيدون الحديث عن الواقع بل لم يفهموه ولم يحظ من اهتماماتهم بوقفة موضوعية فاحصة , ورحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي حتى لو كان عدوا مجرما فعداوته شأن آخر وموضوع مختلف .
أما الموضوع الثاني فهو الشعارات الانتخابية المجانية حين يصبح الكلام سهلا واللعب على القضايا الكبرى سلما لتحقيق المآرب والشهوات . وربما لن يستطيع المرء أن يضيف الكثير بعد مقال الأخ فايز الفايز حول مهزلة المقرات الانتخابية , إلا أن ما يلفت الانتباه في تلك المقالة هو وصف معظم كلام اللقاءات الانتخابية بالقيء , وهذا لعمري وصف بليغ للكلام الذي لا يجاوز الحناجر ولا يُبنى على أسس سليمة .
فالواقع هنا في واد ومطلقو الشعارات في واد ثانٍ , فإذا ما علمنا أننا نعيش في زمن العالمية " بدلا من العولمة " , وأن انتقال المعلومة وأساليب البحث والإحصاء قد أصبحت سهلة المتناول وغدت آلياتها قادرة على إعطاء صورة حقيقية فيما يختص بأي قضية موضع البحث والنقاش , عليه يحق لنا أن نتساءل ونقول : أين الحد الأدنى من المنهج العلمي والمعلومات الموثقة في ما تبنى عليه شعارات المرشحين وبرامجهم ؟ أين المرشحون الذين استعاضوا عن البرامج التقليدية والخطب المنبرية ببرامج قائمة على أرقام ومعطيات من ارض الواقع ؟ بل أننا نخمن بناء على ما نشاهده ونسمعه أن أكثر المرشحين لا يعرفون شيئا عن مديونية الأردن الخارجية أو متوسط دخل الفرد ومعدلات النمو السكاني , حتى الذين ينبرون للحديث عن البطالة فان كلامهم لا يعدو كونه جملا منمقة لم تحتوِ في أي منها رقما أو معلومة تشير إلى اجتهاد صاحبها في صياغة برنامجه وقدرته على إقناع الناخب ذي العقل الراجح , على فرض أن هذا النوع من الناخبين موجود بشكل كاف على خارطة الانتخابات .
هنا نحن لا نظلم المرشحين أو نتعمد الإساءة إليهم , ولكن أين هذا كله في برامجهم الانتخابية ولقاءاتهم الجماهيرية , ألا يحق لنا أن نبحث عن مرشح يبرهن لنا أنه يفهم الواقع كي نتيقن أنه يطلق شعارات واقعية يؤمن بها ويسعى إلى تحقيقها . علما بأن هذه التساؤلات ليست دعوة إلى التعقيد وإرهاق العامة بالأرقام والتحليلات الرياضية , لكننا نبحث عن الحد الأدنى والبرهنة فقط على أننا نفهم ما ندعو إليه .
على مرشحي هذا الزمان أن يطرحوا برامج مؤسسية منهجية , فكل كلام في انتخابات 2007 غير قائم على دراسات متينة هو محض هراء ولعب على العواطف والتناقضات , كلام صلته بالواقع مقطوعة لن يأتي بجديد ولن يمكننا من إفراز مجلس نواب نفتخر به .
samhm111@hotmail.com