أعلن الرئيس المصري الجديد محمد مرسي، أنه بصدد تأسيس ديوان للتظلمات، رصدَ الديوان في الساعات الست الأولى من عمره، عشرة آلاف شكوى من مواطنين مصريين من أصحاب حاجات، ثم انهارت قدرة الديوان وموظفيه على العد. ثم استفاق الحرس على عشرات الآلاف من أصحاب المطاعم والوُرش وبائعي الخردة وصغار الموظفين وسائقي التُك تُك يتجمهرون أمام بوابة القصر، ويستنكرون منعهم من العبور الى مكتب الرئيس. "كيف.. ألم يقل الريس إن بابه مفتوح أمام كل صاحب حاجة" قالها المئات من المحتشدين على بوابة القصر.
هم أنفسهم في كل مكان وزمان من رقعة الدنيا العربية، أولئك الذين يباغتوننا كل لحظة بحقيقة أن حاجاتهم لم تعد ترفاً للاستعراض على برامج الإذاعة الصباحية وصناديق الشكاوى التي أكلها غبار الإهمال في ردهات المؤسسات العامة، وعند ذيول المركبات تحت عنوان "كيف ترى قيادتي؟".
حقيقة الأمر أننا كذبنا حتى صدقنا كذبتنا، دفنا رؤوسنا في الرمال، وقلنا إن المواطن الذي ينهي إجابات المجاملة المعتادة بـ "الحمدلله"، مرتاح بالأمن والأمان وبمدنية الدولة والحريات والبُنى التحتية التي نضرب فيها شعراً كلما أتت مقارنة مع دول عربية أخرى أكثر منا ثروة ونعماً. "الحمدلله" بعيدا عن قدسيتها أضحت تقليداً أردنياً مستحقاً يؤدي إلى معنى الرضا على الحال. تماماً كما نحتنا عبارة أخرى تقليدية تُعطي معاني معاكسة تحت شعار "كل الناس خير وبركة".
كذبنا وأسرفنا بالكذب حين اعتقدنا أن المواطن المُكتفي والمستكفي بما حمله القدر له، لا حاجة له بعد ذلك، وأن الأشياء بعمومها "ربيع وقمر" وأن علاقة الاحترام والثقة التي تربط المواطن بالمسؤول هي عنوان الجودة الأردنية في الخدمة العامة، وتوهمنا أن بيانات الناطقين الرسميين وكبار المسؤولين المُعنونة بالنفي الدائم، تكفي لإقناع المواطن بصدق نوايا الحكومة وسعيها الدائم لخدمته.
إن كنا كذلك، فما بال الاتصالات لا تهدأ في غُرف البرامج الإذاعية، ومقار دواوين المظالم ومكاتب النواب وبوابة الديوان، وواسطات التعيين والترفيع والتأمين والتطبيب والترخيص لا تَكل ولا تَمل.
اكتشفت عبر أشهر من تماسٍ مباشر مع شكاوى على الهواء أنّ تراكم الحاجات وما كان يسميه مسؤول سابق (هزلاً) المطلبيات، لم تصل إلى هذا الحد، إلا بسبب إهمال حكومي متراكم وإصرار تاريخي كان ينعكس دائماً عبر نظرة مسؤول تكاد تنطق "لاعليك.. نحن نفهم المواطن أكثر من أي شخص آخر".
تاريخياً، كان المواطن الأردني يلجأ لنائبه في البرلمان لقضاء حاجاته، ثم تحولت الأشياء وباتت الشكوى على كل لسان، وغابت السياسات المُمنهجة لخدمة الناس، وتراكمت المطالب والهموم، حتى كادت تُثقل كاهل حكومات ودول عظمى.
أعطني أماناً وشربة ماء وخبزا وكفى الله المؤمنين شر (الطلبيات). أسأل ما أولويات المواطن الأردني وأرى في العدل أصدق إجابة. لكن مسؤولين كبارا ما يزالون يعتقدون أن التأمين الصحي والضمان والتعليم ونتائج التوجيهي الصحيحة وسياحة المواطن وعمله كرامته.. ما هي إلا مبالغات (فارغة) على المواطن أن يتوقف عنها ويستشعر امكانات الحكومة المشغولة بقضايا أكبر بكثير.
hani.badri@alghad.jo
الغد