المٌلـّــهم جــــــــــــداً
رولا نصراوين
18-07-2012 08:32 PM
تشرفت بمعرفة شخص مُلًهم قبل فترة ليست بوجيزة وكان مسؤولاً في إحدى الوزارات الخدماتية؛ شخص إرتدى رداءً أكبر من حجمه وأنتعل حذاء يفوق قياس قدميه بكثير...!! كان منصبه مدير لدائرة خدماتية ولكنه من كثرة حديثه عن نفسه وعن بطولاته التاريخية وعلاقاته اللامحدودة بالوسط السياسي والاقتصادي والإجتماعي خٌيل لي أن موقعه يوازي موقع وزير متمكن أو مدير لدائرة المخابرات العامة وبالمستقبل رئيس وزراء..!! ولو حدث أن أٌحُيل للتقاعد تخيلت أنه من كثرة عشقة للكرسي الذي يجلس عليه سيجره معه وهو راكب المصعد عند الخروج من الدائرة جارّاً وراءه أذيال الخيبة نحو المنزل...!!
كان يعيش في جلباب أكبر منه - إذا صح التعبير- يعشق كرسيه بشغف حالهُ كحال جميع العرب ويخاف عليه خوف أم على وليدها...!! عندما تجلس معه يسامرك بتحليلاته السياسية للمواقف المحلية والعربية على حد سواء، والغريب أنه كان يفهم بكل شيء بالحياة وعلى معرفة تامة بشؤون الإفتاء العامة ، بالإضافة إلى أنه ضليع بالطب والهندسة والتفاعلات النووية والسوق المالي والتموين والزراعة وحتى أنه متمكن من التحليل والتحريم بالديانات السماوية الثلاث وكان يقدم توجيهاته وتوصياته للإصلاح السياسي والاقتصادي ناقداً الحكومات المتعاقبة على أدائها في الكشف عن قضايا الفساد ومعالجتها..!!
في الصباح يقود به سائق في تلك السيارة المكيـًفة الفاخرة التي لا تعرف برد الشتاء وحرّ الصيف وطعامه يصل إلى مكتبه مغلفا معقما نظيفا وطازج وفترة صلاحيته لا تتجاوز اليوم الواحد فقط، أما برنامج اجتماعاته يكاد ينفجر من كثرة الإرتباطات العملية والاجتماعية المتوجبة عليه فهو وجه من وجوه المجتمع الراقي ولا يجب أن يكون متغيبا عن مناسباتها.
وفي المساء تجده مدعواً إلى سهرة أو اجتماع في أحد الفنادق المخملية وموائد الطعام الفاخرة لابداية لها ولا نهاية لدراسة أمور العامة ومعالجة مشكلاتهم وقضاياهم المعيشية بعيداً كل البعد عن الشارع والحي والحارة....الخ!! وسائقه المسكين يجلس بالخارج (ربما بلا طعام ذلك أن سعر الوجبة أو الساندويش الذي سيشتريه لنفسه أولاده أولى به..!!) ينتظر ساعة تلو الأخرى لانتهاء المهمة التي لا تنتهي عادة إلا بانتهاء يوم عمل طويل لا يعود منه إلى البيت إلا وأطفاله نيام...!! ملابسه من أفضل الماركات العالمية وعندما لا يجدها في المحلات تقوم شركات الشحن مشكورة بإرسالها له ولعائلته الرغيدة...!! أبناؤه لا يتعلمون بجامعات أردنية ذلك أن التعليم في أوروبا وأميركا أفضل من الأردن وبحكم انتمائهم لعائلات ذات أسماء تاريخية في البلد فالوظائف والمناصب جاهزة بحسب مبدأ الخلافة الشرعية السائد منذ عقود...!!
صديقنا المُلّهم هذا يستثيرك غضباً عندما يبدأ بحديثه الملائكي وقلبه الرؤوف الحنون عن كيفية إصلاح ذات البين ورفع مستوى الخدمات المقدمة لعامة الشعب وتحسين أوضاعهم المعيشية وتأمين الحياة الكريمة لهم من مأكل ومشرب ومسكن حسن وهو يقطن في مناطق سكنية لا تعرف الغبار أو قطع الماء والكهرباء عنها سبيلا. تراه يتألم في حديثه وتعبيره عن مدى إحساسه بمعاناة المواطن المسكين الذي لا يستطيع إكمال مصاريف الشهر وكمية الضرائب الملقاة على كاهله وأسرته وهو بالمقابل لا يعرف الأحياء الشعبية ولا يهتم بما يأكل أو يشرب ويصرف ببذخ على أشياء كمالية لا تعني شيئا لأنها جميعها أمور ثانوية بالنسبة له..!!
وحدث أن أٌصيب صديقنا المٌلهم جداً بحرارة أسكنته السريرعدة أيام صريع الأفكار التي تضرب به يمنة ويسرة إلى أن عجز تماماً عن فهم ما تأول إليه صحته، فجاب المستشفيات الخاصة طلبا للعلاج والإطمئنان (فصحته أغلى ما نملك..!!) وكشف عليه أفضل الأطباء والمستشارين والمتخصصين وخضع للفحوصات بشتى أنواعها واستمر به الحال مدة من الزمن إلى أن أكتشف صديقنا المٌلهم جداً أن الخبيث زاره دون علم منه وأن كبسولة الآمان التي غلًف بها نفسه وارتفع بها عن الأرض ما هي سوى فقاعة هواء انفجرت ما أن تسلل إليها الخبيث...!! عرف أن مجموعة الإفتاءات والاجتهادات والتوصيات التي كان يقدمها لعامة الناس بهدف إصلاح شؤونهم لم يستطع أن يفيد بها نفسه..!! ووجد صديقنا المٌلّهم جداً أنه فارغ جداً جداً وما الحياة الدنيا إلا عبث زائل لا يعطرها سوى العمل الصالح والذكرى الطيبة...
أعتقد أننا نعيش مع أشخاص مٌلهمين كثيرا حولنا وأننا عندما نكون قد انتهينا من قراءة آخر كلمة يتبادر إلى أذهاننا الكثير الكثيرمن الشخصيات التي تٌلهم وجودنا وتغني حياتنا ...!! وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ...