يمتهن شبان في دول أوروبية عدة الانصات إلى المسنين في اماكن رعايتهم الخاصة، ويتلخص عملهم بالاستماع إلى ما قام به هؤلاء المعمّرون من إنجازات يعتدون بهم، وما عانوه من انكسارات وخيبات أمل.
مُسِنون باتوا محتاجين لمن يسمعهم بعد توقف قدرتهم على الإنجاز، بينما تحتاج معظم الشعوب العربية لـ"الفضفضة"، طالما تعيش في مجتمعات يقاس حضورها من خلال اعتراف السلطة بها – على اختلاف أشكالها- لا بنوعية انجازاتها.
لا معايير نقدية تفرّق بين كاتب جيّد وآخر رديء، إنما يكفي اعتراف أنظمة سياسية أو مؤسسات ثقافية يديرها ساسة أو رجال أعمال، فتسلط الأضواء على تجربة شاعر بعينه، وتمنح جوائز تليق بمكانته "المصنّعة".
وتتجلى المفارقة بصناعة أدباء ومفكرين ينافحون عن الحريات والعدالة الاجتماعية، فيما يرتبطون مالياً مع دول تحارب الحرية وقيم الحداثة والتنوير، بل تقوم هذه الدول بدعم الغناء والرقص عبر شركات إنتاج وفضائيات خارج بلدانها، بينما هي تحرّم الفن على شعوبها.
وينطبق الأمر نفسه على حقل التعليم عبر إعداد مناهج دراسية ومدرسين يحاربون الإبداع، ويصرون على تخريج أجيال تلهث وراء السلطة للاعتراف بعلمها ومنجزها وحضورها الاجتماعي.
ويتواصل النهج لا آبهٍ بهجرة العقول إلى الخارج بحثاً عن الحرية والتقدم المهني حسب الكفاءة وسوية إنتاج الفرد.
بدوره، يكّثف الإعلام أبشع صور التواطؤ، حيث تُلمّع النخب وقادة الرأي حسب حاجة السوق، ويتم تكريس المعادلة الظالمة التي تقايض الاعتراف بمميزات الفرد مقابل دخوله "السيستم" وقبوله قواعد اللعبة.
"اعتراف" لا يدوم لأن شروطه تتغير وفق مصالح السلطات وتبدلها، وحينها يبدأ التحضير للاعتراف برموز أخرى تلائم المرحلة الجديدة.
مجتمعات تُسوّق الوهم، في كرنفالات يحتفل فيها شعراء وإعلاميون ومسؤولون ورجال أعمال وناشطون في حقوق الإنسان وناشطات نسويات وباحثون في مراكز دراسات ورجال أمن يروّجون لمنجزاتهم ويؤملون شعوباً بمستقبل راغد وحياة فاضلة.
وفي لحظة الحقيقة، وعندما تزول تلك الأضواء المزيفة والمنصات والمايكروفونات المعلقة، يسقط الجميع بلا إنجازات تمكث على الأرض، فقد كان الاعتراف بهم مدفوع الثمن .

mahmoud1st@hotmail.com


العرب اليوم