معركة تَحوُّل الأمة الجذري بدأت منذ زمن ببطء شديد، وهي الآن تصل إلى النقطة الحرجة، التي تبدأ الأمة عندها بالانقلاب الكبير نحو النهوض وإعادة قلب الصورة المقلوبة، وتصبح الشعوب سيدة الموقف وصاحبة الكلمة العليا، وتنتهي عند ذلك مرحلة المُزارع و"المعزّب"، ومرحلة حكم الإقطاع السياسي المتمثل بأن الزعيم يملك الأرض وما فوقها وما تحتها، وما الشعوب إلا رعايا وعمال بالسخرة، ينتظرون منح الإقطاعي الكبير ومكارمه، وتعطُّفَه بالتطوير والتحسين لأحوالهم المعيشية تحت ضغط المطالبات والمناشدات.
التحول بطيء، وفي بعض المواقع بطيء جدا، قد لا يلحظه قصار النظر وأصحاب الفهم البطيء، ومن كانت على أعينهم غشاوة، لكنه في الوقت نفسه عميق وجذري وصارم وحاسم، يزحف صوب الحرية الكاملة، التي لا زيف فيها ولا مخادعة ولا تضليل، حتى لو كانت هناك بعض الفئات التي لا تريد أن تصدق الحقيقة ولا تريد سماعها، ولا تطيق مجرد التفكير بها، ولكن ذلك لا يضر الحقيقة ولا يبطلها، ولا يعرقل مسيرها.
كانت النخب في القديم تعلق فشلها وعجزها دائما على مبررات خارجية، ووجدت في هذا التبرير راحة للضمير، وتسكينا للنفس المتقاعسة عن مواصلة الثورة الداخلية، والانتفاض على الظلم والعجز عن مواجهة الطغاة والمستبدين، ووصل الأمر بهذه النخب أنها وضعت القوى الخارجية محل الإله، فكل صغيرة وكبيرة تحدث في هذا الكون هي من تدبيرها ومكرها، ولا يخرج على مخططاتها للمنطقة والعالم.
هذا المنهج في التفكير أدى إلى بلادة الذهن والاستسلام للأقوياء والرضا بالواقع البائس، مما جعل الحكام الفاسدين يسدرون في غيهم مطمئنين، وأصبحوا يشتركون في إلقاء التهم وإلصاق المؤامرات بصناع الثورة ورواد التغيير بأنهم على ارتباط بالخارج، وهم في الوقت نفسه والِغوُن في التبعية والاستخذاء.
إن القاعدة الأولى في علم التغيير والإصلاح أنه لا يبدأ إلا من داخل النفس والفعل الذاتي المضني، والعمل الدؤوب على امتلاك القوة الشعبية الجماهيرية الفاعلة، القادرة على إحداث التحول الجذري العميق في نفوس الأجيال، لتمتلك الواقع والفكر المستنير، والقوة النفسانية الهائلة التي تجافي الهزيمة المعنوية، وتخاصم الإحباط وتقاوم الشعور باليأس، وتتمسك بمشروعها النهضوي الوحدوي الحضاري المتميز، الذي يشعرها بالفخر، ويملأ قلوبها بالثقة بقدرتها على إحداث التغيير الجوهري الكبير الذي يصنع الانقلاب العظيم في حياتها وأنظمتها وفلسفتها وقدراتها وإمكاناتها وقوتها.
إن هذا التحول يسير في طريقه بقوة، وإن كان هناك تضحيات ودماء وشهداء، وعثرات وأخطاء، فهذا كله من متطلبات التحول الكبير، وشيء بسيط من نهر النصر، من أجل مزيد من الإنضاج ومزيد من التقويم وكشف الأخطاء حتى تستقيم طريق التحول، وتمضي القافلة نحو أهدافها بثقة، وينبغي أن تعلم الجماهير والأجيال أن العقبة الكأداء تكمن في الداخل وفي الذات، من أولئك الذين يقاومون عملية التحول، ويحاولون التعمية على أعين الشعوب، لكنها معركة حقيقية لا بد من تحقيق الانتصار فيها أولا، من أجل التفرغ إلى مواجهة الأعداء الخارجيين بجسم موحد يخلو من الوهن، ويخلو من الاختراقات، ويخلو من الجيوب التي يتكئ عليها الغزاة عادة في محاولة إجهاض ثورة الإصلاح والتغيير والحيلولة دون إحداث الوعي الجماهيري القادر على انتزاع الاستقلال ومقاومة التبعية.
التحول قادم، شاء من شاء وأبى من أبى.
rohileghrb@yahoo.com
العرب اليوم