المعرفة في العالم العربي وحرث البحر!
أمجد ناصر
02-11-2007 02:00 AM
قليلة هي المدن في العالم التي يتاح لسكانها، للمارين فيها، للعائدين اليها بعد غيبة قصيرة ان يروها تنهض، تقريبا، دفعة واحدة. المدن، بالعادة، تبدأ، مثل الكائن الحي بالتشكل شارعا شارعا، حيا حيا، منطقة منطقة الي ان تبلغ النضج والإكتمال. لكن دبي لا تشبه هذه النشأة المعتادة للمدن، أو، في الأقل، ليست دبي الجديدة كذلك.هناك دبيّان .واحدة نشأت بالقرب من الميناء وبسبب الميناء، كونه نافذتها علي الخارج ومصدر رزقها شبه الوحيد. وأخري ضاق بها الحيز القديم وراحت تزحف علي نحو متسارع، في كل إتجاه.جهة البحر وجهة الصحراء وجهة السماء. فلم تعد تعرف أين ينتهي البحر وأين تبدأ الصحراء. هذه الأخيرة ابنة عشر سنين أو أقل قليلا. دبي الأخيرة هي قصة نجاح إقتصادي وإعماري وإداري في عالم عربي تنهار إقتصاديات دوله ذات الكتل البشرية الكبري، وعم أجهزة ادارتها الفوضي والتسيب. وراء قصة النجاح التي يكاد لا يصدقها حتي أولئك الذين يرونها أمامهم كل يوم، فكرة وإرادة وادراك للتغيرات التي طرأت علي صورة العالم.التغيرات العاصفة التي طرأت علي صورة العالم في السنين العشر الأخيرة،خصوصا في المجال الإقتصادي ووسائل الإتصال والتقنيات،هي التي تسمي، علي نحو فضفاض؛: العولمة.
عندما زرت أهلي الذين كانوا يقيمون في إمارة فقيرة ونائية تدعي أم القيوين حيث كان والدي يعمل ضابطا في الجيش أوائل ثمانينات القرن الماضي، أخذوني في نزهة الي إمارتي الشارقة ودبي. كانوا يريدونني أن أري سوق الشارقة ذا الطابع المعماري الإسلامي، وفي دبي أن أري (أعجوبتها) آنذاك : مجمع الغرير التجاري.عندما رأيت، في زيارتي الأخيرة لدبي، أبراجها التي تناطح السماء وتزحف داخل البحر وداخل الصحراء تذكرت مجمع الغرير الذي أخذني اليه أهلي بنوع من الزهو الخالص. فقد أراد أهلي أن يستثيروا إعجابي وأن يسرّوا عني أنا القادم إليهم من حصار بيروت! قلة من المقيمين اليوم في دبي عرفوا كيف كانت المدينة يومذاك.فمعظمهم جاء مع الطفرة الإعمارية والإقتصادية التي عرفتها المدينة.كثيرون منهم رأوا المدينة تنهض أمام أعينهم في كل إتجاه.
لكن كل ذلك ظل في حيّز الحديد والزجاج والإسمنت والحجر والسلع القادمة من كل حدب وصوب.كان هذا ما يؤخذ علي دبي.كان هناك ما يشبه الإجماع علي أن أبو ظبي للإدارة المركزية للدولة، والشارقة للثقافة والفن، ودبي للتجارة والإستثمار.هذا التقســــيم (للعمل) لم يعد قائما.أو علي الأقل لا يريد أهل دبي أن تلتصق بهم صورة التاجر الشاطر فقط.
فإلي جانب هذه الفورة الإعمارية المتواصلة علي مدار الساعة، هناك أنشطة ثقافية وفنية متعددة تشهدها المدينة.غير أن ما عرفته دبي في الأيام الأخيرة تجاوز حدود المدينة والإمارة والدولة، فهناك تطلع إلي عمل معرفي وثقافي يرنو الي المحيط العربي الأوسع. قصة النجاح الإقتصادي تريد أن تكتب قصة نجاح أخري علي صعيد أكثر صعوبة وتعقيدا هو: المعرفة.
هذا ما طرحه المؤتمر الأول للمعرفة الذي احتضنته دبي في مطلع الأسبوع الحالي. عدد كبير من الأكاديميين والمثقفين الأدبيين والباحثين في المجالات الإجتماعية والتربوية والعلمية اجتمعوا في إطار ذلك المؤتمر الذي استمر يومين وقدمت فيه أوراق عمل تأسيسه.
ففي أيار(مايو) هذا العام طرح الشيخ محمد بن راشد في مؤتمر دولي بالعاصمة الأردنية عمان فكرة ورقما هزّا المستمعين: مؤسسة عربية لتداول وتنشيط أوجه المعرفة المختلفة في العالم العربي ترصد لها وقفية مالية تبلغ نحو عشرة مليارات دولار!
هل هذا معقول؟
هل الرقم الذي سمعه الحاضرون صحيح؟
لعله عشــرة ملايين دولار وليس مليارات ؟ لعل الرجل اخطأ في الرقم؟
لكن، علي ما يبدو،ليس هناك خطأ طباعي! ففي حديثه بافتتاح المؤتمر الذي حضره عمرو موسي امين عام جامعة الدول العربية، أعاد الرجل ذكر الرقم. ولــكن الأهم ، عرض الأفكارالرئيسة لنشاط المؤسسة الوليدة.
خطر لي وانا استمع الي خطابه انه يريد أن ينقل تجربته في الإعمار والإقتصاد الي حقل الثقافة والمعرفة، وقلت في نفسي ان الأمرين غير متشابهين . فإعمار الحجر لايشبه إعمار البشر . إقامة أعلي برج تجاري في العالم او صنع جزيرة علي شكل نخلة عملاقة في البحر لايشبه سد الفجوة المعرفية الضخمة التي تفصلنا عن (الآخر). فكيف يمكن للعطار ان يصلح ما أفسده الدهر؟
أليست هذه طوباوية وحرثا في البحر؟
الجمل الأخيرة قالها هو.
المعرفة علوم صرفة ومختبرات وباحثون وكتب وترجمة وتثاقف مع الآخر ودور نشر ومنهاج دراسي وتقنيات حديثة وتفرغ بحثي وأدبي الخ....
أليس التصدي لكل هذه الأوجه من انتاج المعرفة وتداولها في عالم عربي طارد للمعرفة ومنتجيها، هو كمن يحرث في البحر، أو كحلم ليلة صيف؟
جلسات المؤتمر التي شارك في اوراقها والتعقيب عليها اكثر من مئة اكاديمي وباحث ومثقف أدبي وناشر عربي ابرزت أوجه القصور العربي علي هذا الصعيد وحددت، علي نحو عام، أشكال الإعاقة التي تعترض انتاج المعرفة في العالم العربي لكنها تفاءلت ، في الوقت نفسه، بامكانية التغلب علي بعضها واستدراك ما فاتنا من بعضها الآخر. فهناك رغبة حقيقية عند الذين شاركوا في المؤتمر بالعمل في إطار الخطوط العريضة التي حددتها المؤسسة مجالا لعملها، خصوصا وأن قسما من هذا العمل ينشبك مباشرة بمؤسسات المجتمع المدني العربي . يعول علي الأفراد الفاعلين، الجهات الأهلية وليس الحكومات.
فالمشكلة، اصلا، في الحكومات.إعاقتنا المعرفية الباهظة سببها وعلتها الأولي تكمن في جو القمع والإحباط والفساد والبيروقراطية الرثة الذي اوصلتنا اليه النظم العربية.
المذهل في المؤتمر هو ذلك العدد الهائل من العقول والخبرات العربية التي هاجرت او طردت من بلادها الي الغرب. اكثر من جلسة كشفت عن حجم هذا النزق الخطير والمتواصل للعقل العربي.
هناك عشرة مليارات دولار موقوفة للمعرفة في العالم العربي، ولكن ليس هناك (كاش). الذين يريدون ان (يهبشوا) ويمشوا لن يجدوا ما (يهبشون). فحسب ما تم تداوله في الجلسات هناك مشاريع.الإنفاق يتم علي المشروع وليس هناك (كاش) مسبق. هذه النقطة مهمة، لأنها قد تطرد قناصي (الكاش) المحترفين. المطلوب الآن هو العمل علي إعداد المشاريع الثقافية والمعرفية وتنفيذها. لأن الكلام العربي الجميل اللغة العربية لها القدرة عجيبة علي التنميق والمراوغة. هذا ما تتركه بعد أن ينفض سامر الملتقيات والمؤتمرات. هذه المرة يجب أن يكون الأمر مختلفا: أن يتم حرث تلك الأرض التي تشققت بفعل الإهمال والهجران.
.....................
عن القدس العربي .