عن العنصريّة و العنصرييّن
هشام غانم
01-11-2007 02:00 AM
تُوفّرُ المناسباتُ «الوطنيّة»، من «أعراس» انتخابيّة و كرويةّ و ما شابه، فرصةً رائعةً لأهل العنصريّة لتفريغ ما في جعبتهم من ضغائن. و الضغائن هذه، تَخرجُ من الأفواه و الأقلام مُخْرجَ غرائز عاميّة. و مصدرُ انقلاب «الفكر» غرائزَ، هو أنّ أهل العنصريّة يُنْزلون الحروفَ و الكلماتِ على الورق منزلةَ الكلام المنطوق.«تكاد تميَّز من الغيظ»
و الكلام المنطوق هذا، يتميَّزُ غيظاً و ضغينة، على مثال نار جهنّم التي «تكاد تميَّزُ من الغيظ». و «التميُّز» هنا، على معنى التقطّع و التدافع و التضارب؛ فيَخرج الكلامُ بعضه على بعض، و لا يتجاوب أوّله و آخره؛ فهو أشبه بالركام المتشعّث المتبعثر؛ و ذاك بأنّ العنصريّ يخبط على غير هدىً، و يضرب في تيهٍ بلا أفق. فهو يَحْمل الحوادث و الأحداث على مَحمَل واحد، خالطاً السياسيات بالثقافيات و الاجتماعيات و التاريخ. (العنصريّون مولعون بكلمات من مثل «تاريخ» و «تاريخيّ»). و مردّ الخلط هذا، أنّ العنصريّ – بحُكْم تكوينه الشاذّ – لا يسعه إقامة الحجّة على خصمه من طريق البرهان، و الاستعانة عليه بدليل العقل و النقل، و تالياً، تأييدَ مذهبه بشواهد المعقول والمنقول؛ و ذاك بأنّ جلّ بضاعته حنجرة صلبة، و مزاعم يهيمنُ لفظُها على معناها؛ فبهرجة المبنى، و الحال هذه، تتستّر على خواء المعنى.
اليقين و الجنون
لكنْ، مَنْ قال أنّ العنصريَّ بحاجة إلى الأدلة اللوامع، و البراهين السواطع، و القرائن المسلَّمة، و الآيات المُلزمة؟ فالعنصريّ لا حاجة له بأيّ نوع من الأدلة أو البراهين لإثبات صحّة مزاعمه؛ فهو على يقين لا يتزعزع بأنّه على صواب. و الصواب هذا، يَحْمله على عدم الشكّ إلاّ في شكّ الآخرين به. فهو لا يخطئ، و لئن «أخطأ»؛ فإنما ذلك لأنّ الآخرين «أساؤوا فهمه». على هذا، يُجْهد نفسَه أحياناً بــ«توضيح» موقفه: «لا، لا، أنتم فهمتوني خطأً، أنا لم أقصد، أنا لستُ عنصرياً؛ أنا وطنيّ». غير أنّ ما يُكذّبُ هذا «التوضيح» هو أنّ العنصريّ صاحبُ يقين حديديّ. و يترتّب على هذا اليقين الحديديّ استنتاج يدفعنا إلى الزعم أنّ العنصريّ لم يعد لديه ما يقوله؛ فهو على صواب، و يعلم أنّه على صواب، و يَعْلَم اتحاده بهذا الصواب؛ لأنّه يمتلك الحقّ، و يُطْبق بكفّيْه على الحقيقة. على حين أنّ الأخيرة تُكْتَشَف بالتجربة و المثال؛ فهي تقع أمامنا لا خلفنا، بخلاف ما تزعم الببغاءات العقائدية. غير أنّ هذه الأخيرة لا ترى إلى ذاتها ككائنات عنصريّة و دعاويّة، بل ربّما ترى في خواء امتلائها قرينةً على استواء اعوجاجها. و هذا كلّه و غيره و مثله مردّه إلى اليقين. و الأخير يقوم من الثقافة العربية الإسلامية مقامَ القلب. على خلاف الثقافة الغربية؛ فهذه نزّاعة للريب. و الريب، على نقيض مزاعم الايديولوجيين، ليس هو ما يقود إلى الجنون؛ إنّما اليقين هو ما يقود إلى المسيرة الظافرة نحو الهاوية. و آية ذلك، حوادث لا حصرَ لها في الأدغال العربية.
الدونيّة و الفوقيّة
و لئن كان اليقين هو سائق و إمامُ العنصريّ، بقيَ أنّ الشعور النفسيّ المزدوج هو وقود المركبة العنصريّة. و الشعور النفسيّ المزدوج هو: الدونية و الفوقية. فالشاعر بالدونيّة لا يطيق رؤيةَ «الغريب» أو كلّ «مختلِف عنه». هكذا يغدو كلّ «غريب» مشروعَ خطر و هلاك. و لا ريب أنّ «الغريب» لا يستحق سوى الحسد، الذي، بدوره، سرعان ما يُضْحي ضغينة. و أمّا الشاعر بالفوقيّة فيخشى أنْ يُقوِّض الآخرون مكاسبَه؛ و ذاك بأنّ الخوفَ هو الركن الركين الذي ينهض عليه السلوك العنصريّ؛ فلا ينفكّ يلحّ على صاحبه إلحاحَ الخيل على الوحل. و إذا كان البشر يخافون كلَّ ما لا يشبههم؛ يبقى أنّ العنصريّ لا يكتفي بالخوف من الآخرين، بل يريد منهم أنْ يكونوا على صورته و مثاله. فلئن امتنعوا من (أو عن) ذلك؛ اقتضى هذا أن يحظوا بالكراهيّة. و هو يكره الآخرين؛ لأنّه لا يستطيع أن يحبّهم، و لا يريد أنْ يحبّهم؛ فهو لا يطيق اختلافهم عنه. غير أنّه، و على رغم ذلك، يريد أنْ يكون محبوباً. و هو لئن ذهبَ بعيداً في الكراهيّة، طلَبَ من الآخرين أنْ يكونوا خبثاء؛ كيما يكرههم أكثر، و كيما يستطيع الشعور بأنه طيّب و لطيف. فإذا لم يكونوا خبثاء، كرهَ نفسه. معادلة فظيعة.
الوطن أوطان
و ثقافةٌ هذا شأنها، لا يتبقى للعقل فيها موقع؛ و ذاك بأنّ الغرائز، و المسألة هذه، تنوب منابَ التفكير كسلوك إنسانيّ يتوسّل السياسة لفضّ المنازعات. و لئن كان العنصريون حريصين على «الوطن» و «الوطنية» (و هي في الحقّ «وطنجيّة»)؛ فالأغلب على الظنّ أنّ العنصريّة لا تُبْقي من «الوطن» إلاّ اسمه؛ و ذاك بأنّ الاجتماع الإنسانيّ ها هنا، سوف يفقد التجانس الذي يعطي لقطعة جغرافية ما مسمّى «الوطن». ليغدو الأخيرُ أوطاناً، تتزعمه قبائل و أقوام ايديولوجيّة خلاصيّة. و غنيٌّ عن البيان أنّ الوطن، في ظلّ الايديولوجيات الخلاصيّة، لا يعود يحتمل إلاّ وجوداً واحداً، و معنىً واحداً، و مفهوماً واحداً. و على هذا، يغدو المواطن «الغريب» أو «المختلف» أو «المؤجل» (على قول أحد أصحابنا) جاليةً أجنبية، أو دخيلاً يلوّث «نقاءنا». هذا في أحسن الأحوال، و أمّا في أسوئها؛ فالعراق هو خير أو شرّ مثال على ما يمكن للعنصريّة أنْ تفعله أو تقترفه. و «المثال» هذا هو نفقٌ مسدود من طرفيه، تتكدّس فيه جبال الجثث، و من فوق الجثث تنتصب رايةٌ خفّاقّة، لكنها دامية، و الراية هذه اسمها «المقاومة العراقية».
هشام غانم
hishamm126@hotmail.com