هناك ارتباط وثيق بين أن تكون مبدعا حقيقيا صاحب فكر خاص وطريقة فريدة في النظر إلى الأمور , وبين أن تكون متمردا خارجا على القانون فتعيش حالة صدامية لا تجد منها فرارا . والمقصود بالقانون هنا ليس مجموعة التشريعات التي وضعت من اجل بناء مجتمع آمن متكافل , فالجميع يجيدون التحدث عن الجمال والعدالة ويتفننون في التنظير وصياغة الديباجات الجزلة الجامعة التي لو تم تطبيقها على ارض الواقع فستتحقق ألف مدينة فاضلة وتغدو الأرض جنة مزهرة , وإنما المقصود هو شيء من الأعراف الانتقائية والآليات الظالمة التي وضعت لتحافظ على حالة راكدة تخضع لسلطانها من هم غير قادرين على تجاوزها أو المساس بها دون غيرهم , وعليه فان طبيعة الأمور تفرض حالة التمرد التي يحياها أولئك الذين لا يرون من الخطوط الحمراء إلا ما اتصل بإيمان وثيق يعيشون من اجله أو غاية سامية يناضلون في سبيل تحقيقها .الصعلكة , مصطلح فهم بشكل خاطئ وتردى في سلم المعاني حتى أصبح يشير إلى نموذج بشري معدم عار من سمات الشرف والمروءة , نموذج فاقد للغنى المادي والروحاني يعيش طفيليا على الآخرين ولا يردعه رادع من خلق أو شهامة . ولعلنا إن دققنا النظر جيدا وأزحنا الغطاء الكثيف عن أبصار أرهقها الاستسلام للأشياء الجاهزة فسنجد أن ما أسلفنا من وصف ( وليس مصطلح ) إنما هو يليق بكثيرين ممن يصنفون على أنهم أشخاص محترمون ذوو مهابة أو حصانة ترتقي بهم فوق الشبهات , عندئذ سنتجاوز مصطلح الصعلكة لنتحدث عن طحالب وطفيليات تنهش بنيان المجتمع وتستأثر بحق الآخرين لا لشيء إلا لأنها امتلكت بعضا من مفاتيح القوة والنفوذ , أما الصعلكة فهي شيء آخر ولعلها في خضم ذلك كله شرف ما بعده شرف .
ولقد درج بعض المتفيهقين الذين يحبون وضع الأشياء في قوالب متينة على أن يقرنوا الصعلكة بالسلب والنهب فأدرجوا رموزها ضمن حفنة اللصوص وقطاع الطرق , ثم برز قوم أبانوا أن للصعاليك فكرا ثاروا من خلاله على مجتمعات طبقية أكل القوي فيها الضعيف فانعدمت العدالة وانتشر الظلم والجوع , فالأعراف الانتقائية هناك طحنت الضعفاء والمعدمين ومهدت السبيل أمام الأقوياء ليزدادوا تخمة ويهرسوا الضعفاء أقدامهم .
لكن ما يجدر الوقوف عنده مطولا هو تلك العلاقة المتينة بين الإبداع والصعلكة , فالصعاليك كلهم شعراء تركوا لنا ميراثا ضخما من الشعر النقي العذب الذي تعلو فيه القيم الإنسانية وسمات الفروسية والرجولة , شعرهم هذا ثار على كل شيء حتى على أسلوب الشعر نفسه فقلَّ أن تجد فيه وقوفا على الأطلال أو فحشا وغزلا مسيئا , كان فيه أخلاقيات من مستوى عال وتفرد جعل من أولئك النفر يفضلون الجوع واستفاف تراب الأرض على أن يخضعوا لظالم متجبر أو يشاركوا في ظلم يقع على مسكين مغلوب على أمره .
كان عند أولئك الشعراء المبدعين انتماء ليس له حد إلى المجتمع وسعي مستمر نحو العدالة والفضيلة , كانوا في كل ما غنوا من اجله أبناء تلك الصحراء اللاهبة وأصدقاء قطعان المها وأسراب القطا , أحبوا الأرض والناس فغدوا صعاليك ثائرين . وإنها لمن اكبر المفارقات في هذا الوجود أنك إن أحببت شيئا فان سبيلك الحقيقي للتعبير عن حبك له هو أن تثور عليه .
دعونا من الحديث عن تاريخ شعراء الصعاليك ولنقف موقفا من أنفسنا لأننا امتداد للتجربة نفسها وان اختلفت الظروف والمعايير , فنحن بكل علمنا وتفوقنا ومناهج بحثنا واتصالاتنا ما زلنا نحس بحاجتنا إلى الصعلكة , بل إلى الثورة ليس على تقدمنا في المجالات المادية وإنما على تلك السنن التي لا تتغير , حيث القوي يأكل الضعيف والغني في ازدياد والفقير في انحطاط , نحن نتكلم هنا عن الروحانيات وموازين العدالة وأصحاب المواهب الذين مكنتهم ملكاتهم وسعة اطلاعهم من تكوين موقف خاص من كل الأشياء المحيطة بهم , مسؤولية الإبداع وأهله أمام ما يرونه من آثام وجرائم وعالم غير آمن وضحك على العقول واستخفاف بالإنسان , ربما تكمن مشكلة أولي الألباب في احد أمرين , فهم بين من آثر الدعة والطمأنينة وبين من وضع نفسه في مكان غير مكانها فلم يعرف قيمة الجوهرة الثمينة التي امتلكها , نحن أحوج ما نكون إلى من يضع نفسه في مكانها ولا يعتبر الشهرة وثناء الألسن مقياسا للنجاح من عدمه , نريد مبدعين حقيقيين يقفون من الكون والإنسان موقف الضمائر الحية التي تضع مصلحتها وراء تلك الخزعبلات المادية التي لن يظفر منها امرؤ إلا بمترين من القماش الأبيض يرافقانه تحت أديم الأرض فيبليان بعد وقت قصير .
الناس هذه الأيام مشغولون بأشياء كثيرة , بعضهم أرهق نفسه بمتابعة الانتخابات وترشح فلان وانسحاب علان , ولنسأل سؤالا واحدا يقول : أين يمكن أن يجد المواطن نوابه الحقيقيين ؟ هناك تحت القبة ؟ أشك في ذلك فالمؤمن لا يلدغ من جحر واحد خمس مرات . النواب الحقيقيون موجودون في مكان آخر , إنهم هنا على صفحات المنابر الحرة , نواب وقفوا ويقفون أمام ضمائرهم موقفا لم يرحمهم فوضعهم أمام واحد من أمرين : فإما أن يجرفهم سيل المعتاد من الأمور فيضيعوا مع الجمع الضائع , وإما أن يكونوا علامات فارقة تماما مثل أولئك الصعاليك القدماء , يصعب تجاوزهم ومجابهة أفكارهم وإخلاصهم .
ربما على كل مبدع وصاحب قلم إذا أراد أن يكون علامة فارقة أن يفكر في أن يكون صعلوكا نبيلا .
samhm111@hotmail.com