الأسمر ينتقد تقديم قيادات إسلامية لنفسها في الإنتخابات النيابية
31-10-2007 02:00 AM
عمون - انتقد الكاتب الصحفي حلمي الأسمر تقديم رجالات الصف الأول في الحركة الإسلامية لأنفسهم للترشح في الانتخابات النيابية، وقال في مقال نشرته صحيفة "الدستور" اليوم الأربعاء، حول ظاهرة الفساد في المجتمع الأردني إن غياب الأخلاق في مجتمع ما هو مسؤولية الدعاة إليها في الدرجة الأولى ، فهم سدنتها وحماتها ، وحين نراهم يتكالبون على الدنيا ومغانمها ، ويتصارعون على "من يصبح نائبا مثلا؟" تتراجع صورة الإصلاح وتتلطخ على نحو يلحق الأذى بالقيمة ذاتها ، وتتفاقم المسألة اكثر حين تجد بعض"القادة" يقدمون أنفسهم ويستأثرون بالصفوف الأولى.وقال الأسمر في مقاله الذي جاء بعنوان "«فيروس» الفساد: محاولة لتفكيك الظاهرة، الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها ، حتى سفكت دماء واستبيحت الأموال والفروج ، وعظم الفساد في الأرض ، وهذا الحرص القديم الذي جر للدماء وسفكها ، قد يتوفر هذا الحرص اليوم ، وتسفك فيه طاقات العاملين للإسلام من غير دماء ، وتستباح فيه الدعوة لتكون عرضة لنزاع شخصي ، ويغطى كله بصالح الدعوة وصالح العمل الإسلامي ، وليعظم التأخر في الإنجاز ولتعيش المؤسسة صراعات شخصية مبطنة ، كل ذلك جراء هذا الحرص المقيت...
وفيما يلي نص المقال:
تضخم "مؤسسة" الفساد في الأردن يبعث على القلق ، خاصة وأن تجذر هذه المؤسسة أخذ تجليات خطيرة مس فيما مس حياة الناس وصحتهم ، وما تكرار عمليات التسمم والتلوث على نحو لم يسبق له مثيل ، إلا الدليل القاطع على أننا وصلنا مرحلة خطرة في هذا المنحنى.
وحين نقول "مؤسسة" الفساد لا نعني أن الفساد يخص المؤسسات الرسمية ، بل إنه غدا ظاهرة مجتمعية ، تطال بنى وهياكل ممتدة أفقيا وعاموديا في حياتنا ، فالفساد "فيروس" لعين حين يضرب مجتمعا لا يستثني رسميا أو شعبيا ، نحن أمام عضلة أخلاقية متشعبة الأسباب ، ولو حاولنا على سبيل العصف الذهني أن نحصرها لوجدنا ما يلي :
أولا - لا يستطيع أن يزعم أحد أننا ابتدعنا آلية جامعة مانعة لمكافحة الفساد ، على كثرة مؤسسات وآليات مكافحته ، والحقيقة التي لا يجادل فيها أن هناك نسبة من الفساد متسامح بوجودها ، كما نتسامح بوجود "مصرف" و"حمام" في البيت ، لكن حين تفيض المجاري أو يتمدد "المصرف" ليحتل مساحة كبرى في أي منزل ، يصبح هذا المنزل غير صالح للسكن والعيش فيه ، وما حصل أننا حين كنا نبتدع مؤسسات وآليات لمكافحة الفساد ، كنا نغفل عن حقيقة جوهرية ، وهي أن علينا أن نعالج الجذر قبل التجليات ، ولهذا ظل دور مؤسسات المكافحة قاصرا عن احتواء الظاهرة ،
ثانيا - في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة تنمو الحاجة لاكتساب مزيد من المال ، إما لتغطية حاجات مستجدة ، أو لاشباع نهم "أجرب" لا يشبع اصلا ، وفي ظروف كظروف الأردن الاقتصادية تبقى مصادر الثروة شديدة الضيق ، ولهذا تبتدع العقلية الجائعة للثروة السريعة أساليب جهنمية لجمع المال لا تراعي لا مصلحة عامة ولا حياة ناس..
ثالثا - وهذه النقطة تفضي إلى نقطة أشد خطورة ، وهي أن هناك فساد ذمم يكاد يكون عاما ، وهنا لا بد من أن نتوقف أمام صورة الحركة الإسلامية التي يفترض بها أن تكون نموذجا للإصلاح وإشاعة القيم الرفيعة ، كما كان شأنها كدعوة رسالية ، وهي صورة تضررت كثيرا ، ولم تعد ملهما للمصلحين والأخلاقيين منذ أن تلوثت بطين السياسة والمغانم التي تتيحها ، فبعد أن كانت "اللحية" نموذجا أو رمزا للنظافة والاستقامة وصلاح الحال ، شاب هذه الصورة شوائب بفعل أداء بعض أصحابها الذين لم يحترموا "السمت الإسلامي" فغدا النموذج مضروبا إلى حد ما ، وضاعت أو كادت صورة القدوة ، ما شجع ضعاف النفوس على ارتكاب الموبقات ، في بيئة هي أصلا مهيئة لمثل هذا ، وتربة حاضنة لاستزراع "فيروسات" الفساد.
إن غياب الأخلاق في مجتمع ما هو مسؤولية الدعاة إليها في الدرجة الأولى ، فهم سدنتها وحماتها ، وحين نراهم يتكالبون على الدنيا ومغانمها ، ويتصارعون على "من يصبح نائبا مثلا؟" تتراجع صورة الإصلاح وتتلطخ على نحو يلحق الذى بالقيمة ذاتها ، وتتفاقم المسألة اكثر حين تجد بعض"القادة" يقدمون أنفسهم ويستأثرون بالصفوف الأولى.
بغض النظر عن طهارة النوايا ، وصدق المقصد ، فهذا السلوك ليس مألوفا في التاريخ الإسلامي كله ، وفي هذا كلام كثير شغل بال السلف الصالح كثيرا ، قال ابن حجر: قال المهلب: الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها ، حتى سفكت دماء واستبيحت الأموال والفروج ، وعظم الفساد في الأرض ، وهذا الحرص القديم الذي جر للدماء وسفكها ، قد يتوفر هذا الحرص اليوم ، وتسفك فيه طاقات العاملين للإسلام من غير دماء ، وتستباح فيه الدعوة لتكون عرضة لنزاع شخصي ، ويغطى كله بصالح الدعوة وصالح العمل الإسلامي ، وليعظم التأخر في الإنجاز ولتعيش المؤسسة صراعات شخصية مبطنة ، كل ذلك جراء هذا الحرص المقيت.
كما يقول أحد المشتغلين بالعمل العام ، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي ، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل ، وقال الآخر مثل ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه".
ويعقب أحد الدعاة على هذا بالقول: إذن هذان الرجلان طلبا من أبي موسى الأشعري وهو له مكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصحبهما إلى رسول الله فإذا بهما يفاجآه كما يتبين في بعض الروايات ، أنهما إنما جاء عند رسول الله ليعينهما في بعض المسؤوليات ، فقال أحد الرجلين يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل وقال الآخر مثل ذلك. إذن جاءا يطلبان الإمارة ، جاءا يطلبان بعض المناصب وبعض المسؤوليات ، الجواب النبوي لهذين الرجلين ، وهو جواب لنا ولكل واحد إلى يوم القيامة ، هو قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه".
ومع هذا كله يقول أحد الدعاة ، فإن التطبيق المصلحي المتبصر ينظر ويميز ويستثني الحالات التي تكون مبرأة من هذه الآفات ، وتكون محققة لمصالح أخرى واضحة ، ولذلك وجدنا النبي عليه الصلاة والسلام يولًّي ويؤمًّر من سأله ذلك ، كما في قصة زياد بن الحارث من قبيلة صداء ، وكان هذا الرجل هو الذي قاد وفد قبيلته إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ليعلنوا إسلامهم الذي تبعه إسلام قبيلتهم ، قال زياد: وكنت سألته أن يؤمرني على قومي ، ويكتب لي بذلك كتابا ، ففعل. وقد علق ابن القيم على هذه القصة فقال: وفيها جواز تأمير الإمام وتوليته لمن سأله ذلك إذا رآه كفأ ، ولا يكون سؤاله مانعا من توليته ، ولا يناقض هذا قوله في الحديث الآخر: (إنا لن نولي على عملنا هذا من أراده) ، فإن الصدائي - زياد بن الحارث - إنما سأله أن يؤمره على قومه خاصة وكان مطاعا فيهم ، محببا إليهم: وكان مقصوده إصلاحهم ودعاءهم إلى الإسلام ، ورأى أن ذلك السائل - الذي في الحديث الأول - إنما سأله الولاية لحظ نفسه ومصلحته هو ، فمنعه منها: فولى للمصلحة ، ومنع للمصلحة ، فكانت توليته لله ، ومنعه لله. إن استرسالنا في هذه المسألة له ما يبرره ، فضرب النموذج الإصلاحي ، ودخول هذا النموذج في سجالات وتصفيات ومحاكمات وفصل وعزل ، يحطم القدوة في المجتمع ، ويشجع ضعاف النفوس على ارتكاب الموبقات السبع ، وهم يقولون في أنفسهم: إن كان هذا شأن "المشايخ" فما شأننا نحن "الحفرتلية" ؟؟
رابعا - إن حديثنا المتكرر عن الإصلاح والنمو السياسي ، والدمقرطة والشفافية ، وما شابه ، دون أن يلمس المواطن منجزات كبيرة تتواءم مع حجم المنجز القولي ، والخطاب المكثف ، فتح المجال للاستهانة بالقيم العليا والأخلاقيات المجتمعية ، كل هذا فتح المجال لوقوع ما وقع من استهانة بأرواح البشر ، وعدم حرص على صحتهم ، فتعددت حوادث التسمم والتلوث وتكررت ، بسبب إراقة المعاني السامية ومجانيتها وعدم اهتمام مطلقيها وحرصهم على التمثل بها ، وإنجاز شيء ملموس يثبت حرصهم على ترجمتها عمليا ، بالشكل الذي يردع ضعاف النفوس عن العبث بالأخلاق والمثل العليا،
خامسا - تكرار حوادث التسمم والتلوث دون ردع مرتكبيها ومحاسبة المسؤولين عنها ، ودون وجود "فاعل" حقيقي يعاقب ، شجع على الاستهانة بفداحة هذا العمل ، وجعل من ارتكابه سهلا ، ما دام من ارتكبه - فعلا - في السابق لم يحاسب وظل طليقا في مسؤوليته ، بمعنى آحر فقدنا خاصية الردع والتنكيل ، ما جعل من إمكان الإفلات من العقاب أمرا مألوفا،
سادسا وأخيرا: حينما تقع حادثة فساد أو تلوث أو تسمم ، لا نبادر إلى تشكيل لجان قضائية محايدة ، مستقلة عن أي سلطة ، فتضيع "الطاسة" ونسند الأمر لهيئات ليس لديها صلاحيات مساءلة حقيقية لا تستثني أحدا ، وهو أمر يبقي المتهم أو مرتكب الجريمة في منأى عن المساءلة ، وتظل القضية مسجلة ضد مجهول ، كما هو شأن من يرتكب أعمال السياسي في لبنان الشقيق،
"فيروس" الفساد يتغذى وينمو ويتضخم في مثل هذه البيئة ، وإن لم نتدارك أنفسنا فلن نجد ماء نشربه أو خبزا نأكله ، أو هواء نتنفسه ، وما السرطانات المتفشية في بلادنا إلا علامات على عمق الكارثة ، وتجذرها ، والله المستعان، ،
al-asmar@maktoob.com