من قرأ مقالة الكاتب جهاد الخازن تحت وقع الردود لا بد أنه قد وقع تأثير القراءة غير المحايدة، فالرجل لم يسب العشائر وإنما وصف حالا في الأردن، وفي وحديثه عن صفة النكد الملازمة لابن العشائر لم تكن كلمته في الهواء بل أنه اتبعها بقوله عن ابن العشائر:» إلا أنه عماد البلد، ولو كانت عندي مشكلة وألف صديق لمساعدتي على حلها، لاخترت أن أعتمد على ابن العشائر من بين الألف لأنه أصلي وأصيل.»
ولم يكن الخازن مجرد ناقد للصفات بل انتقد بمقالة تأخر الاصلاح وتعدد الحكومات وتكاثرها بلا نتائج، كما انتقد تجاهل مخرجات لجنة الحوار الوطني، وأشار إلى أزمة البلد الاقتصادية التي لا شبيه لها.
المهم أن النقد والرد على كل من يكتب عن الأردن يجب أن يحدث في حال استحق الرد، فالرجل لم يمس مقدسا أو كرامة لأحد. ولو أن كل من كتب عن البدو أو العشائر وقفنا له بالمرصاد، لكان ممكن أن نخرج ابن خلدون من قبره ونعاتبه فيما كتب من أوصاف عن عرب الشمال إن كنا نقر بأننا على صلة بهم لأنه وصفهم بأنهم أقرب للتوحش وأصعب الناس انقيادا.
البعض يرى أن جهاد الخازن، قد دُفع للمقال، وأن وراء المقالة مؤامرة وأنه مدفوع لذلك، وذلك مجرد توقع قد يكون في غير مكانه، ولكن توالي الحديث عن مؤامرة جعل البحث عن المقالة التي كتبها الخازن تصعد من الترتيب السابع يوم الجمعة إلى الترتيب الثالث يوم أمس الاثنين من بين المواد الأكثر قراءة على موقع دار الحياة.
هذا الترويج غير المباشر للمقالة، جعلها تتقدم المواد والمقالات الأكثر قراءة، وهو ما قدم خدمة لكاتبها، وبالتأكيد جُل القراء غالبا ما يكونوا من الأردن، وهو دلالة موازية على أن المجتمع النكد الذي وصفه الخازن، هو مجتمع منفتح أيضا، والردود على المقالة والتي اقصدها هنا، جاءت عادية ولم تتعد الخمسة ردود على موقع الجريدة.
الأفكار المغلقة والعشائريات لم تكن صناعة عربية أيضا، بل كانت أحد تجليات الفكر الغربي أيضا وهي التي يعيدها المفكر النمساوي كارل بوبر إلى آراء الفيلسوف أفلاطون في انطلاقته من نظرية التغيير عند هيراقليطس الإفسوني، وهذا الأخير هو الذي عادى الديمقراطية وأزدرى العامة ومعتقداتها لأنه من أسرة ملكية، وهو الذي انتقد العلم والعلماء والشعراء واحتقرهم، وقد ظل الرجل يتميز بالغموض والجدلية وبخاصة في مقولته «نحن لا نستحم بالنهر متين» وهي التي رأى البعض أنها تفسر نظرته للتغيير.
إفلاطون نقل حتمية التغيير من مجالها الطبيعي إلى الاجتماعي، في مدينته الفاضلة التي تعطلت بسبب استحالة المثل الذي ترنو إليها. دعا إلى بناء مجتمع الانغلاق والعلاقات العشائرية وتمنّى له الخلود، كجمهوريته الفاضلة. أما هيغل والذي أعجب بمقولة هيراقليطس القائلة بعدم إمكانية الاستحمام بالنهر مرتين، فقد نقل تصوّرات أفلاطون وأعطاها منحى جديدا، مع الإبقاء على جوهرها السلبي.
وبذلك فإن تجديد الفكر العشائري والعنصري من هيراقلطيس إلى أفلاطون إلى هيغل كان ممكنا، وثمة جاهزية عند المثقفين للقيام بعملية إعادة التأهيل النظرية في أكثر من زمان وأكثر من مجال وهو ما قال به النمساوي كارل بوبر الذي حمل المثقفين مسؤولية أساسية في نقل أمراض العنصرية والعشائرية.
أخيرا، هل صفة النكد عيب أم أنها نتيجة للمناخ والظروف والطبيعة الجغرافية؟ هذا ما يمكن مناقشة أفكار عالم مثل صاعد الأندلسي به في كتابه طبقات الأمم أو ابن خلدون في تاريخه؟ لكني أظن أن توالي الردود على مقالة مثل التي كتبها الخازن أو تجاه ما يكتبه عبد الباري عطوان مثلا، يحمل أحيانا تسرعا أو ربما حمية وطنية يمكن أن تكون ألطف وأكثر عقلانية لو تجاوزنا القراءة الأولى إلى ثانية وثالثة.
Mohannad974@yahoo.com
الدستور