استقلال القضاء حماية للمتقاضين
المستشار القانوني جهاد العتيبي
30-10-2007 02:00 AM
إن استقلال القضاء أصبح في العالم مبدأ مستقرًا راسخـًا في ضميره ووجدانه ، فمهما استبيحت حرمة هذا المبدأ كما يحصل من الكثيرين مع الأسف فإن الحاضر على كل حال خير من الأمس والماضي ،ولا بد عاجلاً أو آجلاً أن يأتي يوم يتحقق للقضاء إستقلاله الكامل قولاً وفعلاً وتطبيقـًا .
و الإستقلال لا يتحقق إلا بأن يتمتع القضاة بالإستقلال الذي يكونون فيه أحرارًا في البحث عن الحقيقة ، ومبادئ العدالة تحتم أن يكون القضاء مستقلاً ، وقد جاءت نصوص المواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان لتؤكد هذا المبدأ لما له من أهمية ومكانة في الدول الحديثة .
وإذا كان لا بد من الحديث عن استقلال القضاء فلا بد أن يســتمد القضاء اســتقلاليته مـن مبدأ ( الفصل بين السلطـات ) المطبق في المجتمعات التي تحترم الحقوق والحريات والديمقراطية ، وهذا المبدأ ليس بدعة بل أن كل دارسي الحقوق قد درسوه في بداية دراستهم القانونية ،لذلك فهو مبدأ مستقر لا خلاف عليه ، ومعنى هذا المبدأ الفصل بين السلطات الثلاث : التشريعية ، التنفيذية والقضائية ، وان يكون لكل سلطة من السلطات الثلاث إختصاصـًا محددًا تختص به دون غيرها مع الحفاظ على التوازن بين السلطات والحرص على علاقة التعاون بينهـا ، لذلك وعلى ضوء هذا المبدأ لا بد أن يكون القضاء مؤسسة من المؤسسات الدستورية التي تتولى وحدها الفصل في الدعاوى المطروحة أمامها ، والنتيجة يجب أن يكون القضاء موحـداً له شخصية مستقلة لا أن يكون مجزءاً بين قضاء نظامي وديني وخـاص .
وقد يسأل البعض لماذا إستقلال القضاء ؟ والجواب لان القضاء المستقل هو الأقدر على تحقيق العدالة ، التي لا بد من البحث عنها في مساحات واسعة تبسط أمامه ليقول كلمته ويقرر حكمه ضمن مدة معقولة .
وان استقلال القضاء شرط لتحقيق الحياد والحياد شرط لإحقاق الحق و إقامة العدل ، والاستقلال يعني حماية الحريات ، لكن الحريات المقصودة هنا لا تعني التحرر المنفلت بلا قيود ، إنها الحرية الملتزمة بالدستور والقانون ومسؤوليتها القضاء بين الناس بوحي من الضمير ، فاستقلال القضاء لم يشرع لينعم به القضاة يل لينعم به المتقاضون.
كما نعتقد انه لا يمكن أن تكتمل أي نظرية للعدالة بدون ترسيخ وحماية قيم الاختلاف باعتباره عنصر ثراء في المجتمع يحتاج إلى مؤازرة ، حتى لا تضمحل عناصر التميز فيه .
لذلك نحن بحاجة إلى تطوير نظرية العدالة لتنبع من وفاق على مبدأ الشرعية لا باعتبار الشرعية مجرد تطابق مع القانون ،و بما يكفل للتشريع قاعدة أخلاقية تنبع من وفاق عام على مبادئ مؤسسية تضمن إستمراريته وعدم تناقضه وتذبذبه من حيث دواعيه أو مراميه .
فنحن بحاجة إلى ترقية نظرة مجتمعنا للقانون وتنقيته من صبغة الإلزام ولا أقصد التخفيف من إلزاميته ونفاذه بل القصد هو توفير الأرضية اللازمة لنشأة قناعة فطرية في مواطنينا على احترام القانون والإنكار على كل من يحاول خرقه أو التحايل عليه حتى يتكرس إحترام القانون في أخلاقيات المواطنة وحتى يشكل المجتمع سداً منيعـًا في وجه المارقين عليه بإعتباره الإطار الوحيد القادر على إعطاء دولة القانون والمؤسسات كل معانيها .
ولا شك أن عوامل التحـفيز الذاتي لكل فرد للذود عن استقلال القضاء لا يمكن أن تتم خارج التنشئة الحقوقية في بناء مفهوم المواطنة باعتبار أن آفة الجهل القانوني لا يمكن تجاوزها بسهولة ما لم نرسخ في كل مواطن صفته المرجعية في التشريع وفي كل ما يصدر من قوانين عن طريق إثراء الحوار اللازم لصياغتها واستيعابها في جميع مجالاتها بما فيها الفضاءات الإعلامية القادرة على بلورة رأي عام عريض ومتفاعل فالأمة هي مصدر السلطات .
وثبت خلال التاريخ البشري وتجاربه أن تحقيق العدالة في المجتمعات الحديثة التي أخذت مسيرة طويلة من النضال والكفاح من قبل شعوب عاشت قسوة الظلم ومرارته ، بحيث جعلها تطور نظمها القضائية وتضع الضمانات لتكفل قدرًا كبيراً من الحيدة والنزاهة ، وانتهت إلى تضمين مبادئ أعتمدت في تشكيل مواثيق ومرجعيات في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين وقراري الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 40/32 تاريخ 29/11/85 والثاني 40/146 تاريخ 13/12/85 بشأن المبادئ الأساسية لإستقلال القضاء .
وقد وضعت تلك القرارات الضمانات والمعايير التي يقاس بهــا مدى إستقلال الفضاء وهي إستقلال السلطة القضائية وإنفصالها دستوريـًا عن بقية السلطات .
حيث جاء في البند الأول من المبادئ الأساسية لإستقلال السلطة القضائية الصادر وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 40/32 بتاريخ 29/11/1985 ما يلي: ( تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية وينص عليها دستور البلد أو قوانينه ، ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات إحترام ومراعاة إستقلال السلطة القضائية ) .
والملاحظة الجديرة بالذكر أن الدستور الأردني كما هي معظم الدساتير العربية ينص على أن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ، وهذا النص يعتبر قاصرًا ومخالفًا للمواثيق والإتفاقيات الدولية الموقع عليها الأردن ،لذلك ينبغي أن ينص الدستور على أن القضاء سلطة مستقلة يتولاها مجلس قضائي أو هيئة قضائية ، فيكون النص أقوى وينسجم مع المفهوم الحديث لإستقلال السلطة القضائية ، لأن التعبير بأن القضاء سلطة يعني انه ليس إدارة أو جهازًا تابعـًا ،ويشمل الإستقلال هنا المؤسسة القضائية ولا يقتصر على شخص القاضي ، فالإختلاف بين النصين جوهري .
واستقلال السلطة المؤسسية للقضاء كفيل بخلق القاضي المستقل ، لأنه لتكون رسالته هي حماية الحقوق والحريات والحفاظ على التوازن الاجتماعي لا بد له من استقلالية وان توفر له الإمكانيات المادية والبنية التحتية والموارد البشرية .
لذلك لا اعرف ما الضير في هيكلة المجلس القضائي وتوفير مقر لائق له ، ووضع نظام تنظيم وإدارة لهذا المجلس ووضع الكوادر الإدارية والفنية له لمساعدة المجلس في مهماته الإشرافية على القضاة بوضع هيكل إداري مساعد ، وهذا لا يؤثر أو يقلل من مفهوم الدولة في تقديم الخدمات لان الكثير من الدوائر والوزارات لها مثل هذا التنظيم دون أن يخرجها عن دورها الوظيفي المحدد لها ، وعلينا أن لا ننسى أننا يجب أن نتعامل مع القضاء كسلطة .
وإن لم يكن للقضاء سلطة حقيقية وكيان وضمانات لإستقلاله ، فإن مجرد تقرير مبدأ الإستقلال والإقتصار على النص الموجود في الدستور لا يكفل تحقيق الاستقلال ، فلكل من المجتمع الذي هو مصدر السلطات والدولة دور هام في حماية وصيانة مبدأ إستقلال القضاء ، والقضاء المستقل مصلحة للوطن وهو ملجأ ضروري للمجتمع والدولة ككل ، للمحافظة على الاستقرار وردع من يريد تجاوز حدوده أو أن يقوم بهضم حقوق أفراد المجتمع وخاصة أصحاب النفوذ الذين يهوون توسيع نفوذهم الشخصي ولو على حساب إختصاص مؤسسات العدالة .
وقد نص البند الخامس من المبادئ الأساسية لإستقلال السلطة القضائية الصاد رعن الجمعية العامة للأمم المتحدة المذكورة سابقـًا بأن :( لكل فرد الحق في أن يحاكم أمام المحاكم العادية أو الهيئات القضائية التي تطبق الإجراءات القانونية المقررة ، ولا يجوز إنشاء هيئات قضائية لا تطبق الإجراءات القانونية المقررة حسب الأصول المتبعة بالتدابير القضائية التي تنزع الولاية القضائية التي تتمتع بها المحاكم العادية ) .
ومما لا شك فيه أن تحقيق العدالة يؤدي للإستقرار السياسي وسيادة القانون وتجنب الظلم والاستغلال والتعسف ، ويؤدي إلى التنمية الإقتصادية السليمة وحماية حقوق الإنسان وحرياتهم وخاصة الضعفاء منهم ،ويؤدي إلى تحقيق الإستقرار والسلم الإجتماعي ، مع التأكيد على أن إستقلال القضاء له تـأثيراتـه العامة النفسية والمعنوية على الناس وحبهم وولائهم اتجاه بلدهم الذي تسود فيه العدالة ، وقد تنبهت مؤسسات التنمية الدولية في الوقت الحاضر لمبدأ تعزيز إستقلال السلطة القضائية واعتبرته وسيلة فعالة في محاربة الفقر عبر تعزيز العدالة الإقتصادية والإجماعية الذي يصعب من دونه إستمرار الإصلاح الإقتصادي والسياسي ، إذ لا يمكن حماية جميع الحقوق وتسوية المنازعات وتحقيق العدالة بدون وجود قضاء مستقل .
لذلك نتمنى على إخواننا الذين يكتبون في هذا الموضوع ، أن لا يقيدهم الماضي والتغني على
أطلاله ، وأن يسيروا على طريق التطور الحضاري فالتطور من سنن الكون وهو مستمر ومتواصل وإستقلال القضاء هو عنوان للمفهوم الحضاري للجماعة الإنسانية .
لذلك فإن ما نطالب به التحديث والاستقلال الذي يحقق العدالة الناجزة لنعيد بناء الذات بمنطق الحرية والاستقلال وان ترقى المؤسسة في قراءة التاريخ والمجتمع من منطق الدولة ذاتها في تحولها نحو الديمقراطية والحرية نحو العدالة ، ولن يتسنى ذلك إلا بقدر وعيها للشرعية المؤسسة للدولة ذاتها بحيث ينحسر تأثير الأشخاص والأسماء ،والتنظيمات والمصالح و الإغراءات إلى مقاييس المبادئ التي يستوي في ميزانها الحق ويزهق الباطل ويتجلى بها جلال الشرائع والتشريعات بما يوطد الشرعية في منظومة القضاء.
وما نعنيه بتوطين الشرعية في منظومة القضاء هو ما نعتقد أن مدلول استقلال القضاء في اصدق معانيه ، بحاجة إلى استكمال بنية السلطة القضائية في علاقاتها ومركزها من بقية السلطات وفي صيغة المجلس القضائي من حيث تركيبه واختصاصاته ومسؤولياته والدور الموكول إليه في إطار القضاء وفي إطار مؤسسات الدولة بصفة عامة ، وكلها مواضيع تدخل في صميم العلوم القانونية وتتطلب الرجوع إلى كل المقاربات والتجارب والإلمام بكل المعطيات والأهداف وهي مسؤولية مشتركة لكل الخبرات القانونية التي يزخر بها بلدنا اليوم .
لقد تحولت الدولة الحديثة إلى مؤسسة محكومة بصراع منافسة لا تقل متطلبات تسييرها عن غيرها من المؤسسات فهي تسوق البلاد في استقطاب الاستثمارات وترويج المنتوجات وتقديم الخدمات ويحكمها منطق النجاح والفشل في بورصة الدول كما تحكم البورصة مصير المؤسسات في حصص تداول الأسهم، وغني عن البيان الدور الموكول للقضاء في إنجاحها، وهو ما تنبأ به جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين الذي يقود هذا الاتجاه باقتدار.
لذلك فإن منطق العدالة يجب أن ينبع من منطق المؤسسة لا من نوازع أفرادها الذين يكونونها، أن فكر المؤسسات عندما ترتقي في هيكليتها وكفاءة أدائها يطحن نوازع أفرادها ويفضح الرداءة ويقصيها من دوائر القرار .
وان ما يميز نظام العدالة القائم على مبدأ الاستقلالية كتعبير عن السلطة القضائية في موازاة باقي السلطات في إطار نظام متكامل وديمقراطي يتمثل في الاختلاف الجذري من حيث الارتباط ، فالوظيفة السياسية والبرلمانية لا يمكن أن تستمر في كل الحالات إلى ما لا نهاية ، وهو ما يختلف اختلافاً جذريـًا عن الوظيفة القضائية سواء من حيث متطلبات الإستقرار والاستمرار أو من حيث المرجعية التي يجب أن لا تقتصر على نظام معين أو أن تتلون بحسب تبدل الحكومات والمجالس النيابية ، بل إن مرجعيتها لا بد أن ترتبط مباشرة بالدولة بقطع النظر عن تبدل الاتجاهات السياسية والحكومية ، وهي بهذا الاعتبار المؤتمنة الحقيقية على إستمرار الدولة شأنها شأن المؤسسة العسكرية والأمنية مهما كان رئيس الحكومة أو الحزب أو التيار الغالب في البرلمان .
القاضــي
جهــاد العتيبـي