لم يكن الاستقلال عند الاردنيين مجرد مناسبة عزيزة ولا مجرد كلمة لا تحمل جل الدلالات والمعاني العميقة والعتيقة فقط , بل جاءت بداية مجيدة حملت مفاصل البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي بما فيه من معاني الحرية والعدالة والعمل والانطلاق نحو تحقيق الاهداف .
ولم تأت نهضة الشعب الاردني ومطالبته بالاستقلال وليدة الصدفة بل جاءت لتعبر عن آلامال والطموحات التي عاشت معهم منذ القرن التاسع عشر عندما اخذت الولايات العربية التابعة للدولة العثمانية تعيش حالة متوهجة من الوعي السياسي والتعايش مع ما يحدث من تطورات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية واكبت الحملة الفرنسية على مصر والبعثات العلمية الى اوروبا والارساليات التبشيرية التي شكلت حراكا شعبيا رافضا لواقع الخنوع والاستكانة للمستعمر , حيث ساهمت اعمال الطباعة والترجمة والاستشراق في تشكيل حالة فكرية قادها الرواد والادباء والمفكرون ونادوا بالتغيير والاصلاح والنهوض من السبات الدامس وتشكيل الاحزاب والجمعيات وانشاء الصحف والمجلات والنشرات اضافة االى تبني المبدأ الثوري وسلسلة الثورات ضد الانجليز والفرنسيين والاتراك كما هو الامر بالثورة العربية الكبرى .
لم يتقدم الفرنسيون بعد احتلالهم سورية نحو الاردن لوقوعها ضمن النفوذ البريطاني .وكان للتفاهم البريطاني الفرنسي المنسجم مع اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة دور في محاولة بريطانيا خداع اهالي شرق الاردن بمنحهم حكما محليا مجزءا ليخلف الحكومة العربية الذي انتهى وجودها في دمشق بعد معركة ميسلون وقد هدف الانجليز والفرنسيون من هذا أولا الى ابقاء مناطق شرق الاردن مبعثرة متصارعة ضمن كنتونات سياسية تحكمها العشائرية والثاني محاولة الالتفاف حول الحراك الثوري الوطني وخاصة ضد الفرنسيين والانجليز الذي اتسم به ابناء المنطقة. سارعت بريطانيا بتكليف مندوبها السامي في القدس هربرت صموئيل للقاء عشائر الوسط والجنوب في مدينة السلط في 20/8/1920 في حين التقى الميجر (سمرست) وجهاء الشمال في ام قيس في 2/9/1920 واسفرت اللقاءات عن تشكيل حكومة اربد برئاسة علي خلقي الشراري وحكومة السلط برئاسة مظهر ارسلان وحكومة الكرك برئاسة رفيفان المجالي
لم تستمر هذه الحكومات اكثر من سبعة اشهر حيث لبى الملك عبدالله الأول المؤسس نداء ابناء الوطن الاردني واحرار الامة من الشام والعراق وفلسطين الذين وجدوا في الاردن موئلا لهم ورفعوا جميعا شعار تحرير فلسطين واعادة عرش فيصل .
وامام هذا الحشد والارادة والتصميم ادرك الانجليز انه اصبح لزاما عليهم اعطاء هؤلاء الثوار في هذه المنطقة الثائرة وهذا الزعيم الثائر جزءا من مطالبهم في الاستقلال فكان مؤتمر القاهرة في12/3/1921 وكان الاعلان عن موافقة بريطانيا على تأسيس مقاطعة شرق الاردن يحكمها زعيم عربي ، فتشكلت اول حكومة في شرق الاردن عام 11/4/1921 برئاسة رشيد طليع الذي سمي الكاتب الاداري ورئيس مجلس المشاورين .
اثمرت نضالات الاردنيين عبر مؤتمراتهم الوطنية واحزابهم السياسية الهادفة لتحقيق الاستقلال وجهود الملك عبدالله للتخلص من الانتداب البريطاني وبعد ثمانية عشرة سنة عن توقيع المعاهدة الاردنية البريطانية الثانية في 22/3/1946 والتي بدورها الغت معاهدة عام 1928 الاولى والاتفاقية المعدلة لها وبذلك فقد تم الاعتراف بالاردن دولة مستقلة ذات حكومة ملكية وراثية نيابيةة واناطت الاتفاقية بالملك عبدالله الأول مسؤولية الحفاظ على الامن والدفاع عن شرق الاردن على ان تقوم بريطانيا بتقديم مساعدات مالية للاردن لتسديد نفقات الاقسام الحربية اللازمة للدفاع عن الاردن .
في 30 اذار 1946 صادق الملك عبدالله الأول على الاتفاقية مباشرة حيث هب ابناء الوطن وفي شتى انحاء المعمورة مطالبين باعلان الاستقلال واتخذت المجالس البلدية المحلية التي رأسها ممثلون شعبيون وشيوخ عشائر وقوى سياسية وطنية قرارات تطالب بالاستقلال وعلى اساس النظام الملكي الوراثي النيابي وطالبت مجلس الامة الخامس انذاك بالاجتماع لاقرار ذلك بدورة فوق عادية اقر خلالها فعلا بتاريخ 22/5/1946 مطالب الشعب وتعديل القانون الاساسي(الدستور) والذي بمقتضاه حلت عبارة المملكة الاردنية الهاشمية بدل شرق الاردن وعبارة جلالة الملك عبدالله محل سمو الامير عبدالله ، وتابع المجلس جلساته حتى اعلن في 25/5/1946 الاستقلال التام والبيعة للملك عبدالله الأول مؤسس البلاد وكيانها ووريث نهضتها العربية بوصفه ملكا دستوريا على رأس الدولة .
وكان الاستقلال عند الشعب يعني الانطلاق نحو تحقيق اولى ابجدياته متمثلة بصياغة دستور جديد يبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها ويرسم العلاقة بين السلطات ويقر حقوق الافراد وواجباتهم فظهر دستور عام 1947 ثم جاء دستور 1952 الذي تعامل مع الاستحقاقات والتغيرات السياسية والاجتماعية والديمغرافية التي مر بها الاردن وخاصة وحدة الضفتين عام1950 ،وتسلم الملك طلال سلطاته الدستورية عام 1952 بعد استشهاد الملك المؤسس عبدالله الأول , والحرب الاسرائيلية العربية عام 1948، وبروز مشكلة اللاجئين ...... كل ذلك شكل الرحم التي ولد منها دستور 52 الذي يعتبر انموذجا متطورا وقاعدة مهمة لقيام دولة القانون وتطوير العمل السياسي وتقوية دعائم الحكم الديمقراطي .
لقد شكل الاستقلال الرافعة الاساسية نحو التقدم والنجاح وكان لترسيخ مفاهيمه الحقيقية في نفوس ابناء الوطن الدور الاكبر في تمكين الاردنيين من مواجهة اعتى التحديات واصعب الصعوبات . وظلت في الاردن خميرة مباركة نابعة من الذات وتلاحم ابنائه عصية على ان يخترقها احد او ان يزاود عليها احد ، فكان الاردن في عهد الهاشميين هو الاردن نفسه بثوابته واطلالاته الاصلاحية الجامعة الداعية الى الوحدة مستعيدا العزيمة والقوة والرؤى السديدة من واقع التاريخ المتوارث ومن محبة الشعب للأسرة الهاشمية باعتبارها القاسم المشترك لنا جميعا .
كافح الاردن فنال وناضل الشعب فاستحق هذا الاستقلال فلنبق مع الاستقلال بمعناه الحقيقي وغاياته النبيلة.
Ad_alzoubi@yahoo.com
العرب اليوم