حين كان الأستاذ الدكتور محمد عدنان البخيت طالبا في الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1965 لدى أستاذه لعلامة قسطنطين زريق ، وكان يحضر لرسالة الدكتوراه في التاريخ ، اختار أولا الكتابة في مدينة تاهرت في الجزائر ، إلا أن حميته بعد أن قيل له ؛ لا يوجد مادة للكتابة عن أي من المدن الأردنية ، ولا عن التاريخ في تلك البقعة . فغير رسالته إلى موضوع " مملكة الكرك في العهد المملوكي " . وهي من أصعب فترات التاريخ ، حيث ندرة المصادر والمراجع ، إلا أن الدكتور عدنان البخيت أراد أن يحدث فتحا جديدا في بدء الكتابة في تاريخ شرقي الأردن ، التي أهملها المؤرخون المحدثون أيما إهمال على أهميتها . ومما يسجل للدكتور البخيت توجيه أبحاثه وتحقيقاته ، ورسائل طلابه في الماجستير والدكتوراه إلى البحث في تاريخ شرقي الأردن ، لا سيما المدن الأردنية ؛ فقد كتب تلميذه الدكتور جورج طريف عن السلط وجوارها ، وكتبت الدكتورة هند أبو الشعر عن اربد وجوارها وكتب الدكتور نوفان السوراية عن عمان وجوارها ، وربما وجه آخرين للكتابة في معان وجوارها والكرك وجوارها .
وقد جاء كتاب "مملكة الكرك في العهد المملوكي " للدكتور محمد عدنان البخيت في 176 صفحة ، والذي كان في الأصل رسالة دكتوراه ، في الجامعة الأمريكية في بيروت ، وقد نشر في عمان عام 1976 . ويدور محور هذا الكتاب عن تاريخ شرقي الأردن أي المنطقة التي عرفت فيما بعد بشرقي الأردن ، فمنذ العهد الأيوبي الذي نشأت فيه مملكة الكرك كإمارة أيوبية ابتداء ، كوحدة إدارية مستقلة من بلاد الشام أصبح لها تاريخ مدون يمكن التحدث عنه .
فقد كانت بلاد الشام في العهد المملوكي مكونة من سبع ممالك : دمشق ، حلب ، حماة ، طرابلس ، صفد ، غزة، الكرك .
فقد بين الدكتور البخيت في كتابه ؛ أن الكاتب الموسوعي محمد بن أبي طالب الدمشقي المعروف بشيخ الربوة (ت 727هـ 1326م) أول من عدد المناطق المؤلفة " لجند الكرك " فهي مكونة من : اللجون ، الحسا ، الأزرق ، السلط ، وادي موسى ، وادي بني نمير ، جبل الضباب ، جبل بني مهدي ، قلعة السلع ، ارض مدين ، ارض القلزم .
اما ابن فضل الله العمري (ت 742هـ 1341م) فقد حدد مملكة الكرك كما يلي : قال وأما الكرك ويعرف بكرك الشوبك فحده من القبلة عقبة الصوان ، ومن الشرق بلاد البلقاء ، ومن الشمال بحيرة سدوم ، وهي بحيرة لوط ( البحر الميت ) ومن الغرب تيه بني إسرائيل .
اما ابن شاهين الظاهري ( ت 873هـ 1468م ) فيذكر أن معاملة الكرك تمتد من العلى ( العلا) إلى زيزه( زيزياء ) كما أكد الدمشقي أن العلا ضمن معاملة الكرك .
ويعدد الدكتور عدنان نيابات مملكة الكرك كما أوردتها المصادر كما يلي :
بر مدينة الكرك ، الشوبك ، زغر ، معان . وكانت الكرك تتكون من 400 قرية كما يقول ابن جبير ( ت 614هـ 1217م) ومنها : الكرك ، الأزرق ، حسبان ، البرج الأبيض ( مرج الحمام ) ، قنبس ، ذيبان ، قاطع الموجب ، الصفرة ، زيزه( زيزياء) ، فديك ، قصر معين (ماعين) ، ذبيان ( ذيبان) ، شيحان ، صرفة ، مآب ، الربة ، الحسا ، المقيرة ، الصافية ( بلدة غور الصافي ) ، مؤتة ، الثنية ، قاب ، الشوبك ، زغر ، اذرح ، معان ، الحميمة ، سلع ، حبال ، غرندل ، أيلة ( العقبة) . وذكر من مزارات الكرك مؤتة ، والمزار ، فيهما من قبور الصحابة الشهداء جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة ، والحارث بن النعمان ، وزيد بن الخطاب ، وعبد الله بن سهل ، وسعد بن عامر بن النعمان القيسي . ومن المزارات الحميمة شمال شرقي العقبة إلى الشمال من القويرة ، فيها ضريح الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، جد بني العباس ومؤسس دعوتهم ، وكانت الحميمة مركزا للدعوة العباسية ، إلى أن اخذوا الخلافة من الأمويين . ومن المزارات صرفة من قرى مآب بها قبر يوشع بن نون . وشيحان ، التي اشرف منها موسى فنظر إلى بيت المقدس ، فقال يا رب هذا قدسك ، فنودي : انك لن تدخلها أبدا ، فمات عليه السلام ولم يدخله . ومن المزارات الرقيم قرب عمان فيها الكهف الذي آوى إليه الفتية الذين آمنوا بربهم المذكورة قصتهم في القران الكريم .
اما عن سكان مملكة الكرك ؛ فقد بين الدكتور عدنان البخيت ؛أنهم يتكونون حسب الدين من مسلمين وممسيحيين ويهود .
ويرجح الدكتور عدنان البخيت أن معظمهم من أحفاد القبائل العربية التي هاجرت عبر فترات التاريخ إلى شمالي الجزيرة العربية وجنوبي بلاد الشام ، فقد ذكر اليعقوبي أن أهالي غرندل من غسان وبلقين . اما المسيحيون فمعظمهم من العرب سكنوا البلاد قبل احتلال الفرنجة لها .
وفئات السكان ثلاث ؛ الحضر ، البدو ، الفئة الحاكمة من المماليك . فقد كان سكان مدينة الكرك من الحضر . وسكنت القبائل البدوية حول الكرك ، ومن أهم القبائل البدوية في الكرك : بنو صخر وبنو عقبة . وكان بنو صخر ينقسمون إلى عدة بطون منها ؛ الدعجيون وكانوا يسكنون الشوبك . وبنو شجاع وكانوا يسكنون الكرك . والضبيون وكانوا في الكرك . والعطويون من قبائل الشوبك . وبنو وهران بجبل عوف من الشام أي جبل عجلون . وبنو هوير في الكرك .
والقبيلة الثانية من جذام هي قبيلة بني عقبة كانت مساكنهم في الكرك ، من الكرك إلى الازلم في برية الحجاز. وقال القلقشندي إن مساكن بني عقبة من أيلة ( العقبة) إلى داما قريب عينونه . وكانت قبيلة بني عقبة أهم قبائل الكرك لدى مقر السلطنة بالقاهرة . فكان شيخهم يخاطب بلقب " السامي الأمير" . والقبيلة الثالثة في الكرك بنو جرم تسكن في جبال الشراة وقسم في غزة . وبنو ربيعة ، وبنو نمير كانوا يسكنون حول الكرك . وقد أثارت هاتان القبيلتان الاضطراب حول الكرك . وبنو عائذ بين غزة والكرك . وبنو لام . وبنو زهير في الشوبك . والصونيون في الشوبك .
والطبقة الثالثة من سكان الكرك المسلمين طبقة المماليك . ومنهم العائلات المبعدة إلى الكرك ؛ كعائلة الظاهر بيبرس التي أبعدت إلى الكرك زمن السلطان المنصور سيف الدين قلاوون . وكان السلطان الناصر محمد قد أرسل أولاده إلى الكرك احمد وإبراهيم وأبا بكر وزوجته وابنه أنوك . إلى جانب هؤلاء الموظفين كان هناك نائب السلطنة وحاجبان وقاضيان وكاتب سر وناظر جيش ونقيب جيش ومحتسب ومتولي ونائب قلعة وأمير عشرينات وبعض أجناد القلعة وبحرية وغلمان سلطانية . ومقدم بريد مع عائلاتهم .
اما السكان النصارى في الكرك وفي الشوبك فيبدو أنهم غالبية السكان في الكرك والشوبك . وقد فرضت عليهم بعض القيود في مختلف أنحاء السلطنة منها أن يلبسوا العمائم الزرق بدل البيض . واليهود العمائم الصفر والسامرة العمائم الحمر . إلا أن السلطان عاد وأعفى أهل الكرك من لبس العمائم الزرق . وكانت فئة اليهود تسكن في عقبة أيلة .
اما أراضي الكرك فكانت في معظمها خراجية ؛ تدفع الخراج على الغلات . وكانت بعض الأراضي تعطى إقطاعا اما للمشايخ أو لبعض العائلات المملوكية القادمة من القاهرة .
وكانت الكرك تزرع الحبوب خاصة من الشعير والقمح . وكانت الشوبك تضاهي دمشق في دوانيها وتدفق مائها وطيب هوائها . وقد اشتهرت الكرك والشوبك بالمشمش ، وكان المشمش ينقل إلى القاهرة . وكذلك الرمان والكمثرى ، والعنب والزيتون ، والتمر من نخيل أيلة . والرطب من زغر ، واللوز من مآب . والتين . وكانت لدى الكرك ثروة حيوانية هائلة ؛ الخيل والبغال والحمير والجمال والهجن والأغنام والأبقار والجواميس . والحيوانات البرية فكان السلاطين والولاة يأتون للصيد فيها .
اما معادن الكرك فاهمها " الحمر" الذي كان يستخرج من البحر الميت ، وينقل إلى القلاع ويدخل في صناعة النفط وتلطيخ الأشجار . وكان في الكرك معدن البارود . إضافة إلى المياه المعدنية في ماعين والطفيلة .
وكانت عملة الكرك في العهد المملوكي مكونة من الدينار والدرهم . وهي نفس العملة المستعملة في القاهرة . اما أوزانها فهي الصنجة والرطل المكون من 12 أوقية . اما مقاييسها فكان الذراع للقماش وذراع العمل للأرض . وكانت الأراضي تمسح بالفدان الإسلامي والفدان الرومي .
وكانت أعلى وظيفة إدارية في الكرك وظيفة نائب السلطنة فقد حكم بها خلال الفترة من 661هـ 1262م إلى 922هـ 1516م حوالى 57 نائبا للسلطنة ، بدءا من الأمير عز الدين أيدمر إلى الأمير قايتباي . اما في الشوبك فقد حكم فيها من نواب السلطنة خلال الفترة من 659هـ 1260م إلى 748هـ 1347م حوالى 9 نواب سلطنة ، لأنها كانت كثيرا ما تضم إلى الكرك في نائب واحد . وكان من الوظائف الإدارية والي القلعة والحاجب والمهمندار والاستدار ونقيب الجيش ومقدم البريد . وكاتب السر ، وناظر المال والمحتسب وأمير عربان الكرك . وقاضيان أحدهما شافعي والآخر حنفي .
وكانت الكرك ترتبط بخطين بريديين مع القاهرة ، وبخط بريدي مع دمشق . فمن القاهرة إلى الكرك 27 محطة بريد . زادت مع الزمن إلى 33 محطة . اما الطريق بين الكرك ودمشق حوالى 12 محطة إلى 15 محطة .
وكانت الكرك خزانة لأموال السلاطين المماليك ، ومخزنا لحواصل السلاطين . ومرعى لمواشيهم . وسجن للمغضوب عليهم . وكانت الكرك منفى للعائلات السلطانية ومربى لبعض أولاد السلاطين . وكانت ممر بين مصر والشام ، وممر على طريق الحج . وكانت الكرك مركزا للثورات على السلاطين
ومن رجالات الكرك خلال العهد المملوكي ، أبو الفرج بن الشيخ موفق الدين اسحق بن القف من نصارى الكرك ، وكان طبيبا . له كتاب العمدة في صناعة الجراحة. وكتاب الأصول في شرح الفصول لابقراط . وكتاب جامع الغرض في حفظ الصحة ودفع المرض . وكتاب الشافي في الطب . ورسالة في منافع الأعضاء الإنسانية ومواضعها .
ومن رجالات الكرك القاضي عماد الدين المقيري . الذي عينه السلطان برقوق قاضيا لقضاة الشافعية في القاهرة. وتولى الخطابة في المسجد الأقصى . وبرهان الدين الكركي الذي ولي القضاء بالمحلة في القاهرة . وله من المؤلفات الإسعاف في معرفة القطع والاستئناف . والاله في معرفة الوقف والإمالة ، والعديد من المؤلفات . وعلم الدين داؤد بن عبد الرحمن الشوبكي الكركي الذي عمل ناظرا للجيش في طرابلس ودمشق وحلب والقاهرة . وجمال الدين يوسف الكركي الشوبكي ، عمل كاتبا للقاضي عماد الدين المقيري في الكرك ثم في القاهرة . وناظرا للجيش في طرابلس . وفي دمشق . وكاتبا لسر دمشق . وغيرها من الشخصيات التي لا مجال لذكرها هنا .
وهذه دعوة مني لاقتفاء اثر أستاذنا الدكتور محمد عدنان البخيت الذي كتب لنا عن مملكة الكرك في العهد المملوكي في التأليف عن هذه البلاد ، فقد أحدث فتحا جديدا في التأليف عن بلادنا الأردن والبلقاء والتي عرفت بشرقي الأردن ثم المملكة الأردنية الهاشمية . وكان ما سبق من ثنايا كتابه القيم .