تهديد إيهود باراك "بانسحاب إسرائيلي" أحادي الجانب من الضفة الغربية، هو بالون اختبار لردود الفعل الفلسطينية أساساً، والعربية والدولية، ورمي الكرة في الملعب الفلسطيني وإعطاء إسرائيل فرصة لترميم ما أحدثه بنيامين نتنياهو من ضرر دولي لسمعة وصورة الدولة اليهودية، بتعنته وعدوانية شخصيته وتصريحاته.
يجب هنا التوضيح انه عندما يتحدث باراك عن انسحاب فهو يعني "إعادة تَمَوضع للجيش الإسرائيلي" في نقاط معينة تتيح لإسرائيل ضم ما تريد من الكتل و المستوطنات وما حولها من أراض ، تسمح لها بتوسعة هذه المستعمرات وإنشاء طرق التفافية لِتَنَقُلّ المستوطنين، وفي الوقت نفسه إطباق الحصار على المناطق الفلسطينية المجزأة والمتقطعة على شكل بانتوستانات - لا تملك سيطرة على حدودها أو مائها أو سمائها.
لكن إسرائيل لا تستطيع تنفيذ مثل هذا التهديد، المقدم على انه اقتراح "سلام جديد"، لسبب واحد لأن أي حال يثبت الشكل النهائي للأراضي المحتلة يحتاج توقيعا فلسطينيا، لإعطائه شرعية أمام العالم، لأن من دون القبول الفلسطيني، سيقود الانسحاب الزائف إلى تفجير الوضع فلسطينيا.
فإعادة تَمَوضع في الضفة لا يمكن تنفيذه على طريقة الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، إلا فيما يتعلق بالحصار الناتج عنه، وذلك لعدة أسباب: الأول أن انسحابا جزئيا في الضفة يعني ضما إسرائيليا للمستوطنات و القدس الشرقية، وهذه وصفة انتفاضة ثالثة ، ثانياً لأن نقاط التماس في هذا السيناريو، تستوجب اتفاقا مع طرف فلسطيني يستطيع السيطرة على السكان وقمعهم.
لا يوجد طرف فلسطيني يستطيع القبول بمثل هذه الفكرة، لأنها في أحسن أحوالها ستكون كيانا مؤقتا وممسوخا ، ويسمى "دولة"، تمهيداً لحل نهائي في حدود إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي مقابل التخلي عن حق العودة للاجئين والاستقلال الفلسطيني، عدا عن التخلي عن القدس الشرقية.
المقلق في اقتراح باراك ليس في تنفيذه، لأن إسرائيل غير مستعدة لفرض حل نهائي، لكن تأثيراته السياسية كورقة ضغط للطرف العربي على الفلسطينيين لاستئناف المفاوضات على أساس تحليل خاطئ ومُضَلِّل أن نتنياهو " قد تحرر من ضغوط الأحزاب المتطرفة" وبالتالي يكون أكثر مرونة واستعداداً للقبول ببعض المطالب الفلسطينية.
إسرائيل ليست معنية بالمفاوضات نفسهاـ لكن معنية بخلق ظروف في المنطقة تتيح لواشنطن قبول ضربة عسكرية ضد إيران ،في ظل صمت وحتى تعاون الدول العربية المعنية، عندما تدق ساعة العمل.
أي أن إسرائيل تهيئ نفسها، لما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، عندما يحين موعد القرار الرسمي، بحسم مسألتي سورية وإيران.
وفي حال فاز باراك أوباما من جديد، وأطلق، كما هو متوقع ، مبادرة لإحياء ما يسمى "بعملية السلام"، خاصة وأن مستشاره، غير الرسمي، المسؤول السابق، المعروف بسجله المنحاز لإسرائيل، دينيس روس، يتصدر جهود الرئيس الأمريكي لضمان الأصوات اليهودية الأمريكية في الحملة الانتخابية.
لكن إيهود باراك، صاحب ما سمي في حينها "العرض الإسرائيلي السخي"، أراد أن يكرر عرضه مرة أخرى عن طريق التهديد، لأن ما اقترحه في كامب ديفيد ورفضه الرئيس الراحل ياسر عرفات، هو في جوهره وخطوطه العريضة يؤدي إلى الحل نفسه على الأرض من كيان ممزق لا يسيطر سكانه على ما فوقه في السماء ولا على تحتهم في الأرض- لأن السيناريو المطروح جديداً وقديماً يعطي إسرائيل حق فرض حظر جوي وحقاً في استخدام المياه الجوفية والاستئثار بها.
بكلمات أخرى يعود باراك إلينا بعد اثني عشر عاماً ويعلن أنه يتمسك باقتراحه المرفوض وإن بنسخة قد تكون أسوأ بعد توسعة المستوطنات، وأكل الجدار العنصري ما ابتلع من أراض وهجر من سكان.
في المحصلة، من الضروري أن لا ترضخ السلطة الفلسطينية لمثل هذا الابتزاز، وأن لا يقبل الأردن أي ضغوط أمريكية لتحريك "عملية السلام"؛ فصحيح أنه يحق للأردن أن يكون على معرفة بما يحصل في مفاوضات ستؤثر في نتيجتها عليها، لكن لا فائدة، فهناك ضرر وطني من جر الأردن إلى لعب دور "الوسيط" أو الطرف الذي يدفع الفلسطينيين إلى المفاوضات — فلا الوضع الداخلي يسمح للأردن بالدخول في لعبة الوقت الضائع التي لن تفيد سوى إسرائيل التي يتغير فيها إلى الوضع إلى درجة خداع أنفسنا بأنها باتت مستعدة لسلام عادل ودائم.