مثل عادته في الخطابات الطويلة، أفاض بشار الأسد واستفاض في الحديث عن المؤامرة التي تتعرض لها سوريا منذ عام ونيف، وتشارك فيها قوى دولية وإقليمية وعربية.
والحق أننا لم نكن إزاء خطاب بالمعنى التقليدي المعروف، لأن الخطاب عادة ما يحاول المجيء بجديد بالنسبة للناس، وإلا لن يكون له معنى، فقد كنا إزاء محاضرة مدججة بالإنشاء كتبها مستشار متمرس في الكتابة، لكن المصيبة أنها كانت بلا مضمون حقيقي، هي التي لم تغادر في مقارباتها السياسية ما تضمنته الخطابات السابقة، فضلا عن المقابلات الصحفية، مع توفر بعض النكهات الأفضل في المقابلات تبعا لقدرة الصحفيين الغربيين على الحصول على تصريحات تجعل المقابلة أكثر إثارة.
كان من الصعب على بشار الأسد إخفاء حالة الارتباك التي يعيشها؛ لا على ملامح وجهه ولا طريقة حديثه الأقرب إلى استجداء السوريين من أجل المحافظة على وطنهم من المؤامرة، أو محاولة دغدغة عواطفهم بالتبجيل واستثارة مشاعر الفخر، فضلا عن استدعاء النبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين بدون مناسبة في سياق من الحديث عن الحروب الاضطرارية التي خاضوها (لا تخفى الدلالة هنا تبعا لحقيقة أن حلفه الإيراني لا يعترف بالمصطلح الأخير أصلا).
خلاصة الخطاب أن لا شيء نفعله في مواجهة هذه الموجة من الإرهاب غير الحل الأمني، لأن الإرهابيين لا يريدون الحوار ولا الإصلاح، بدليل أننا كلما تقدمنا على طريق الإصلاح ازداد الإرهاب، مع أن أحدا لا يدري بالطبع عن أي إصلاح يتحدث بعد الدستور الذي استبدل حزب البعث القائد للدولة والمجتمع، بالرئيس الوصي على الدولة والمجتمع، والذي تعود إليه مقاليد الأمور، ما ظهر منها وما بطن!!
ما يجري هو معركة حول سوريا ودورها، ومن يديرونها يريدون أن يضربوا هذا الدور ويقسِّموا هذا الوطن. هذا ما قاله بالنص، الأمر الذي يثير السخرية بالطبع، لأن من خرجوا إلى الشوارع لم يتلقوا أوامرهم من الخارج، أما العنف (الإرهاب كما يسميه) فلم يظهر منه شيء إلا بعد شهور طويلة من الثورة وما انطوت عليه من قمع دموي.
هذه المؤامرة الخارجية الرهيبة بحسب المحاضرة ينسجم معها مرتزقة من الداخل، والمرتزقة هنا هم الذين ينزلون إلى الشوارع من أجل الاحتجاج بعد أن يقبضوا الثمن (هذا ما قاله أيضا)، وهناك من بينهم صغار في السن يتلقون 2000 ليرة سورية (يا للثمن الرخيص) مقابل كل شخص يقتلونه، ما يعني أن فتيان سوريا ورجالها قد تحولوا إلى مرتزقة يعيشون على القتل، بينما يغامر كل واحد منهم بحياته حين ينزل للشارع مقابل الحصول على حفنة من الليرات السورية (لم يذكر الرقم بالدولارات أو اليورو أو الريالات نسبة إلى عواصم التآمر على نظام المقاومة والممانعة!!).
لقد كنا إزاء رجل يدفن رأسه في الرمال ويداري ارتباكه باستجداء الشعب من أجل الوقوف في وجه المؤامرة، لكن المصيبة أن الشعب الذي يخاطبه هو المتآمر الحقيقي، وأقله أداة المؤامرة الخارجية، فكيف يتأتى له أن يواجهها، ما يعني أنه ليس أمام الرئيس سوى مخاطبة الجيش لكي يقوم بمهامه، وهو ما كان حين توجه إليه بالتحية، ودافع عنه في مواجهة الذي يتهمونه بقتل الناس (اعتبر ما يسفكه من دماء مثل الدماء على يد الطبيب الجراح حين يخرج من غرفة العمليات!!)، وتوقف عند اتهام الجيش المذكور “الباطل” بمجزرة الحولة، وحيث انتقل المتآمرون بعد انكشاف أكاذيبهم حول مسؤوليته عنها إلى مليشيات النظام، الأمر الذي لم يحدث بالطبع، إذ بقي الاتهام للجيش قائما في الشق الأول من المجزرة المتعلق بقصف الدبابات، بينما كان الذبح التالي من نصيب الشبيحة الذين يطلقهم النظام مثل الكلاب المسعورة ضد الناس.
لم يتطرق بالطبع لكثير من التطورات الخارجية التي تحيط بالقضية السورية، من تلك التي تشي بضعف موقفه وترنح نظامه، مثل طرد السفراء الأوروبيين، فضلا عن موقف جامعة الدول العربية الجديد كما عكسه اجتماع الدوحة، كما لم يتطرق للتطورات الداخلية المستجدة مثل سيطرة الجيش الحر على العديد من مناطق سوريا، فضلا عن انخراط دمشق وحلب بقوة في الثورة.
بدأ الخطاب وانتهى من دون أن يقدم للمستمعين جديدا يذكر، اللهم سوى التأكيد على أن المعركة مستمرة حتى يحسمها أحد الطرفين، وقد ثبت لكل العقلاء أن النظام هو الخاسر، فيما جاءت التطورات الأخيرة لتؤكد أن المدى الزمني لصموده قد أخذ يتقلص بمرور الوقت.
الدستور