إذا ما احتسمنا المال الذي جُنّد لحملة المرشحين اللذين سيصبح أحدهما رئيساً لجمهورية مصر العربية ، وإذا ما احتسمنا الانقسامات التي وقعت في صفوف اليسار واليسار القومي، بحيث توزعت أصواتهم على أكثر من مرشح ، وإذا ما احتسمنا الأجواء النفسية التي يراهن عليها عادة مصممو الدعاية الانتخابية، عندما يشيعون فكرة استحالة النجاح وما يعبر عنه بالصوت الضائع . وإذا ما أضفنا إلى كل هذه الحسومات الحرب الشرسة الاستئصالية التي يتعرض لها التيار القومي أياً يكن تفصيله، منذ عقدين ،على امتداد العالم العربي، ومنذ ثلاثة قرون في مصر، فان حمدين صباحي تفوق بامتياز في الانتخابات الرئاسية المصرية .
الرجل العادي ، ابن الشعب البسيط ، ابن البلد الطيب، الذي لا يقف وراءه مال نفط ولا تمويل اجنبي ولا ماكينة إعلامية عربية أو أجنبية ، الرجل الذي يشبه الناس في كل شيء ، ابتداء من ابسط أمور الطبيعة الإنسانية : المرض، الذي أراد خصمه الذي يدعيّ الدين أن يعيّره به ، فإذا بصراحته في الرد تقرّبه من الناس اكثر. إلى الموقف القومي الذي وضعه خلال الحرب على العراق في السجن الصغير مثله مثل كل الشعب الذي كان في السجن الكبير، كي لا يُسمع صوته ضد التواطؤ والتعامل مع الاحتلال ، وكي يُفرض عليه أن ينسلخ عن جلده وألا يحس في مصر بجرح العراق، وقس على ذلك. إلى التوازن في المعادلة الكامنة في شخصية الإنسان العربي بشكل عام والمصري بشكل خاص : ثنائية الدين والقومية ، من دون أي تعصّب في الأول ومن دون أي ربط بالأحداث للثاني . فإذا كان لا يمكن لأي عاقل أن يقارب سيكولوجية الإنسان العربي من دون أن يتجاهل مكوناً أساسياً هو الإيمان الديني ، مما جعل رموز القومية يعترفون بذلك ويحترمونه ، من عبد الناصر إلى مفكري القومية العربية في الشام وحتى انطون سعادة الأكثر علمانية والذي عرف بمقولته المشهورة : "كلنا مسلمون لرب العالمين ، منا من اسلم لله بالإنجيل ومنا من اسلم لله بالقرآن ومنا من اسلم لله بالحكمة" ، وفصّل ذلك في كتاب خاص بعنوان الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية. هذه الحقيقة نفسها هي التي تجعل الواعين من الناس يرفضون أن يزايد عليهم احد في تدينهم ، وان يتعامل معهم بفوقية، وكأن الله كلفه بأن يكون وسيطاً ومعلماً ذا عصاة . كذلك لا يمكن لأي موضوعي أن يرى في هذا المكون عنصر تعصّب ورفض للآخر ومصادرة لحرياته بل وإقصائه وإرهابه .
واليوم إذ يطالب شباب الثورة في مصر بمجلس رئاسي يضم جميع المرشحين للرئاسة الذين حازوا على نسب عالية من الأصوات، لم يعد ممكنا تجاهل الحضور القومي ، كما انه لم يعد لاحد بعد اليوم أن يقول إن القوميين هم القومجية ، وإنه عفى عليهم الزمن ، وإن الناس الذين لا يلتحقون بالعولمة الأمريكية ، ولا يتعطرون برائحة النفط ، لا يجدون لهم مكاناً في صالة السياسة. لم يعد ممكناً القول بان عصر الدول الماكرو والمجتمعات الحضارية العريقة في العالم العربي قد انتهى لصالح الدول الميكرو والأكثر غنى.
قال غالبية الناس نعم لحمدين صباحي، لكنها في الواقع كانت لا لنظام أراد أن ينسيهم انهم يوما بنوا السد العالي وامموا القناة وطوروا الزراعة وتمكنوا من التعليم المجاني وحرروا المرأة من دون تحويلها إلى أداة استهلاكية (مستهلكة بفتح وكسر اللام )، وارتقوا بالفنون والإعلام والآداب، وساهموا بكل ثورات العرب من اليمن إلى الجزائر .إنه كان هناك زعيم يقول لهم : ارفع راسك ! لكنهم لم ينسوا رغم انهم دفنوا بالديون والتبعية وخيانة القضايا والأشقاء.
كذلك كانت لا لمن يريد أن يجعل من إيمانهم الديني التلقائي المنفتح ، وسيلة لتدمير كل ما تبقى من تلك المنجزات، وتحويلهم إلى جهلة أو مأجورين أو إرهابيين .
كانت نعم لتاريخ الأزهر والبابا شنودة ، ورفضا لوهابية تُحجم الأول ولأصابع أجنبية تريد تدمير ما كرسه الثاني .نعم للتاريخ الألفي العريق ولا للطارىء الذي يظل طارئا مهما لمعّوه وحملّوه بالدولارات.
على أية حال ، انتهت الانتخابات ولكن لتبدأ المعركة الحقيقية ، حيث إن الأهم هو أن هذه النتائج أعادت الثقة والحماس لخوضها، لكنها أيضاً ستؤجج لدى العدو الاستنفار الجديد لمواجهتها، والرهان لن يكون سهلاً .
العرب اليوم