عمون - لقد أدهشني البرفسور الهندي المسلم الذي يحمل الجنسية الأمريكية ويدرس في الجامعات الأمريكية والمتخصص في الفكر الإسلامي باهتمامه بهذا المصطلح الجوهري والمهم في الفكر والفقه الإسلامي وسبقه إلى هذا المفهوم العميق، وإنّه ليمثل السمة الغالبة التي ينبغي إبرازها والعناية بها من قبل المفكرين الإسلاميين المعاصرين.
الإحسان يمثل فلسفة الإسلام الحقيقية، وجوهر مشروعه الحضاري العالمي الكبير، فهو يقوم على فكرة الإحسان في كلّ أمر وفي كل نظامٍ من أنظمته العملية التي تستهدف الارتفاع بمستوى التعامل مع الوجود الكوني كلّه، وتجويده وتحسينه وتطويره ليصل إلى أعلى درجات الكمال وأرقى أساليب التعاون والتفاعل مع الموجودات بأسلوب حضاري متميز.
والاحسان من الجذر العربي (حسن) وكل زياداتها تزيدها حسناً على حسن، من تحسن وتحسين وإحسان واستحسان، في البحث عن أعلى درجات المصلحة الإنسانية التي يقرها العقل البشري وتتواءم مع فطرته السليمة، وتلبي حاجاته المركوزة في كينونته الآدميّة بعناية.
وترتكز فلسفة الإحسان على الآية القرآنية الكريمة: {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين}، وكأنّ السياق القرآني يشير إلى أنّ غايات الرسالة والنبوة محصورة في تحقيق معاني الرحمة الواسعة، والرحمة تقتضي الأدوات الرحيمة والوسائل الرحيمة والكلام الرحيم والفعل الرحيم والأهداف والغايات الرحيمة، وبناء المجتمع المتراحم، وجعل التراحم أسلوب حياة بين الأفراد والأسر والعائلات والشعوب، ومنهج حكم للزعماء والرؤساء وأرباب المسؤولية.
ويوضح هذا المعنى الجوهري في المشروع الحضاري الإسلامي الكبير قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله كتب الإحسان في كلّ شيء، حتى في الذبحة" بمعنى أنّ الإنسان يجب أن يبحث عن أفضل طرق ذبح الأضحية، بلا تعذيب ولا غلظة وبلا عنف، وأن لا يعمد إلى سنّ السكين أمام ناظري الذبيحة، وأن يعمد إلى سقيها الماء، ولا يذبح حيوان أمام حيوان آخر، حتى لا يدخل عليه الخوف والفزع.
فهذا مثال على أدنى درجات الإحسان في مثل هذا الفعل الضروري للحياة فكيف إذا سيكون الإحسان في التعامل مع الإنسان، أباً وأخاً وصديقاً وقريباً، والإحسان تعامل ضروري حتى في حالة الخصومة.
وورد في الحديث أنّ رجلاً دخل الجنة بكلب، وجده يأكل الثرى من شدة العطش فأسقاه بخفه حتى روي، ودخلت امرأة النار بهرّة، حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها وسقتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض>
هذا يدفعنا إلى القول بقوة إنّ الإنسان يحمل روحاً مقدسة، وحريّة وكرامة مصونة ومحفوظة، يجب على كلّ صاحب مسؤولية أن يعامل هذه الروح وهذه الكرامة والحرية بقداسة ورحمة وإحسان، وبأعلى درجات الاحترام والتقدير>
ويجب أن يظهر ذلك في التعامل وفي الحوار وفي الأقوال وفي التقنين والتشريع والأنظمة والدعوة والوعظ والإرشاد والحكم والإدارة، بحيث يكون الإحسان مصدراً للقيود والضوابط والأعراف التي يتم التحاكم إليها في الحكم على الأشياء، ومقياساً لكمال الأفعال وتمام الانجاز على الصعيد الفردي وعلى الصعيد الجماعي، بحيث يصبح الإنسان قادراً على الإحسان في التعامل مع خالقه، وقادراً على إحسان التعامل مع نفسه وقادراً على الإحسان في التعامل مع الإنسان والحيوان والنبات ومع الموارد ومع كل موجودات الكون>
ويجب أن يبتعد عن كل ألوان العنف أيضاً والغلظة والقسوة، وأساليب الانتقام، ويجب أن يبتعد أيضاً عن السخرية والاستهزاء وكل أساليب الإهانة للآخر، قال الله تعالى :{ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}؛ فالإسلام رحمة وإحسان ووفاء وصدق وتواضع، وليس قتلاً ولا تخويفاً ولا رعباً ولا إرهاباً.
العرب اليوم)