كان يحمل في أحشاء عقله صورة لامرأة ، بمواصفات كرستالية ، فهي جسد اسطوري أقرب إلى الروح ، تتكون من ذرات غبار الطلع المعجونة برحيق الأزهار والعسل ، المضمخة بقطرات ندى غابة استوائية لم تزل بكرا، هكذا يتخيلها ، أو يحب أن تكون على الأصح ، وهو يضفي عليها صفات وطبائع تخرج من أعماقه هو ، ولا يهمه ان كانت لا تمت بنسب لها ، لأنه "يحلم" بامرأة كونها خياله ، وأودع فيها مواصفات ، تترجم جوعا مزمنا لـ "مثال" ربما يكون غير موجود على الأرض ، وتسدد فواتير قديمة ، وتعالج ندبا روحية ، وجروحا قديمة.
انه يحذو حذو "بجماليون" في رواية توفيق الحكيم الشهيرة ، الذي صنع تمثالا لامرأة هيمنت عليه وغدا أسيرا لما صنع ، أو يفعل كما دأب العربي في الجاهلية حين كان يصنع الهه من التمر ، ثم يشرع بعبادته ، لكنه هنا لا يجرؤ على أكله حين يجوع ، بل يبدأ بمحاكمة "معبودته" وفقا لاشتراطات ومواصفات هو أودعها فيها ، وقد لا تكون موجودة فيها البتة. والكارثة هنا حين يصحو هذا العاشق المجنون على "واقعية" محبوبته ، ونزوعها للتراب والطين ، كأي مخلوق بشري لا علاقة له بغبار الطلع ولا بالرحيق،، الشعوب المحرومة المهزومة والمأزومة تلجأ للحلم الجماعي ، فتصنع "بطلها" كما تحب أن يكون ، لا كما هو كائن ، وتبدأ بالنفخ فيه ، فتصدق أنه مخلصها ومنقذها ، ويصدق هو كذلك الكذبة الكبرى ، حتى اذا وضع هذا "البطل" على محك ما ، وتبين زيف الحلم ، انهار كل شيء ، وأنشدت ، مع ذلك العاشق المجنون: يا فؤادي لا تسل أين الهوى - كان صرحا من خيال فهوى، ليست صروح الهوى هي التي هوت ، فالهوى كان محض هواء ، حوله خيال الحرمان والجوع المزمن الى صروح وهمية ، لا تصمد أمام العواصف والأنواء ، وكلما بالغنا في الوهم وأمعنا في اتقان صناعته ، ومارسنا أحلام اليقظة بدأب وتفان ، كانت الدهشة والانهيار أكثر فظاعة واشد عنفا، نحن أمة تداعت الأمم علينا ، كما تداعى الأكلة على قصعتهم ، ، مال ومنشآت ونظم ونفط سايب يغري بالسرقة والنهب ، نصفنا حالم ونصفنا نائم ، ونصف ثالث يعيش في اللامكان ، فهو ليس هنا ولا هناك ، هل نقول ان حلمنا القومي والوطني والأممي أيضا: كان صرحا من خيال فهوى ، وما بعد الهاوية إلا التفكير في الصعود؟ الصعود الحقيقي لا الملتبس....،،
al-asmar@maktoob.com