تقرير: الحلول المطبقة لمواجهة عجز الموازنة غير مجدية
31-05-2012 12:04 AM
* اعادة هيكلة القطاع العام هي خطوة اولية نحو ارجاع الانفاق الحكومي الى مستواه الامثل.
عمون - أعد الاستاذ الدكتور طالب عوض، مدير المرصد الاقتصادي- مركز الدراسات الاستراتيجية، تقريرا حول دراسة تحدي عجز الموازنة وحجم القطاع العام في الاردن.
ولأهمية التقرير، تنشر "عمون" نص التقرير للإفادة مما يحويه من إضاءات وآراء وتحليلات جادة وعميقة:
يعاني الاردن من مشكلة عجز في الموازنة العامة ذات طبيعة مزمنة، وإذا ما أضيف إلى هذه المشكلة مشكلتي المديونية الخارجية والعجز في التجارة الخارجية المزمنتين أيضاً فان مرآة الاقتصاد الوطني تعكس صورة غير صحية تؤثر سلباً على كافة مؤشرات الاستقرار الاقتصادي الكلي وتنافسية الاقتصاد الوطني.
وفي ظل الأزمة المالية العالمية الراهنة فان مركز الأردن كاقتصاد تنافسي جاذب للاستثمارات الأجنبية قد تعرض لهزة في السنة الأخيرة حيث تراجع ترتيبه التنافسي من 134/50 في عام 2010 الى 142/ 71 في عام 2012 (انظر مثلا في: (Barro (1989) and Schully (2003)).
وبقراءة أولية لأسباب هذا التراجع يتضح أن أهم الأسباب هو التدهور في مؤشرات الاستقرار الاقتصادي الكلي بما فيها عجز الموازنة العامة والمديونية الخارجية والعجز التجاري إضافة إلى تراجع أداء قطاع التعليم العالي وتدهور مؤشري ملائمة بيئة الأعمال والابتكار والتطوير.
وبالتالي فان إحدى وسائل تحسين الوضع التنافسي وزيادة درجة الثقة في الاقتصاد الوطني تتمثل في السعي الجاد للسيطرة على العجز في الموازنة العامة والعمل بشكل موازٍ للحد من المديونية الخارجية والعجز التجاري. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه حول كيفية الحد من عجز الموازنة العامة في ظل أزمة الركود السائد حالياً والتي يتطلب مواجهتها اعتماد سياسات مالية توسعية بدلاً من الحد من الإنفاق العام.
العلاقة بين حجم القطاع العام والنمو الاقتصادي
وفقا للتحليل الاقتصادي حول العلاقة بين معدلات النمو الحقيقي ونسبة الانفاق العام فان هناك مستوى امثل من حجم الانفاق العام يعظم معدلات النمو الاقتصادي . ومع الاستمرار في تزايد نسبة الانفاق العام الى ما بعد الحد الامثل سيكون الاثر سلبيا على النمو الاقتصادي بفعل تراجع انتاجية القطاع العام وتفاقم مشكلة البطالة المقنعة والمزاحمة السلبية للقطاع الخاص.
وقد وجدت الدراسات التطبيقية ان هذا الحجم الامثل يتحقق عندما تكون نسبة الانفاق العام للناتج المحلي الاجمالي في المدى 10-20%. ويعود هذا التراوح في النسبة لاختلاف نوعية القطاع العام من دولة لأخرى.
وبالتالي فان استخدام الحكومة لسياسات اقتصادية رشيدة وشفافة (ذات نوعية اعلى) يمكن ان يتغلب على الاثر السلبي المرافق لتضخم حجم القطاع العام على النمو الاقتصادي. الامر الذي يعني انه في المحصلة النهائية فان الحجم الامثل للقطاع العام ظاهرة ديناميكية تتغير مع الزمن ومع الدول.
واذا ما نظرنا الى هذه النسبة في الاردن (الشكل المجاور) يلاحظ ان نسبة الانفاق العام للناتج المحلي الاجمالي قد تراوحت بين 30-42% خلال الفترة 1990-2012، مما يعني تضخما واضحا في حجم القطاع العام وتجاوزه للحجم النسبي الامثل الذي يعظم معدلات النمو الاقتصادي. وقد ساهم ذلك في تصاعد مشكلة العجز في الموازنة العامة.
فبينما بقي العجز الحكومي (قبل المساعدات) ضمن النسب المقبولة ضمن المعايير الدولية حتى عام 1996، الا انه عاد وتجاوز هذه النسبة الى الضعف في الاعوام 1997 و1998 (ليصل الى حوالي 6% من الناتج المحلي الاجمالي) ثم عاد بعد ذلك الى سقف النسبة المقبولة عند 3% لغاية عام 2005 حيث تدهور العجز بعد ذلك بشكل ملموس ووصل الى 9% في عام 2009 ثم تراجع الى 7% في عام 2011
وبالرغم مما يلاحظ من تراجع مستمر في نسبة الانفاق العام للناتج المحلي الاجمالي، حيث انخفضت من 42% الى حوالي 30% ، الا انها ما زالت أعلى بمقدار الضعف تقريبا عن النسبة المثلى اللازمة لتعظيم معدلات النمو الاقتصادي.
اذن فان سياسة اعادة الهيكلة والاصلاح الاقتصادي اصبحت ضرورية ويجب ان تركز على ضبط النفقات العامة اكثر منه على رفع الايرادات والضرائب لان ذلك سيسهم ايجابيا من خلال السيطرة على العجز الحكومي ومن خلال تخفيض نسبة الانفاق العام الى المستوى الامثل المحفز للنمو الاقتصادي.
من ناحية أخرى لابد من الإشارة إلى أن هذا التحليل للعجز يستثني المساعدات الخارجية (قبل المساعدات)، وبالرغم من المساهمة الايجابية للمساعدات من خلال دعم الموازنة العامة للدولة ومساعدة الاقتصاد الوطني بشكل عام على اجتياز بعض المنعطفات غير السهلة التي وقفت في طريقه، الا انها من ناحية أخرى متقلبة وذات طبيعة مؤقتة تتحكم فيها عوامل سياسية واقتصادية متغيرة، مما يعني انه لا يمكن الاعتماد عليها كمصدر دائم لتمويل عجز الموازنة ولابد من البحث عن مصادر بديلة ذاتية.
ومن المتفق عليه بين الاقتصاديين ان رفع درجة الشفافية والمراقبة فيما يخص اعداد الموازنة العامة
من العوامل المهمة التي تساهم في الحد من عجز الموازنة من خلال ضبط الانفاق والحد من الفساد العام وتحسين كفاءة استغلال الموارد المالية العامة.
وبالرغم من ان الاردن قد حصل على علامة مستقرة حول المتوسط (50) ومن افضل الدول العربية فيما يتعلق بمؤشر الشفافية والرقابة في اعداد الموازنة العامة، الا انه ما زال هناك مجالا واسعا لتحسين وضع الاردن وجعله في مصاف الدول المتقدمة من حيث الشفافية والمتابعة والسيطرة على الفساد.
السياسات الاقتصادية المطلوبة
اما على صعيد الحلول فيمكن الاستنتاج أن الحلول المطبقة حتى الآن لمواجهة عجز الموازنة العامة وتضخم حجم القطاع العام حلول آنية وغير ناجعة على المدى الطويل.
ومن المأمول ان يكون التوجه الحكومي الاخير نحو اعادة هيكلة القطاع العام هي خطوة اولية نحو ارجاع الانفاق الحكومي الى مستواه الامثل.
اضافة الى ذلك لابد من إعادة النظر في السياسات الاقتصادية المتبعة وعلى نحو يأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
1- التركيز ما أمكن على خفض الإنفاق العام الجاري بدرجة اكبر من التركيز على خفض الإنفاق العام الرأسمالي. كما ويتطلب ذلك من الحكومة اتخاذ مزيد من الخطوات لتحسين إدارة الموارد المالية للقطاع العام وتقليص عدد الإدارات العامة غير الضرورية.
2- التركيز على توسيع الوعاء الضريبي المحلي أكثر من التركيز على رفع معدلات الضرائب نتيجة لتأثيرها السلبي على تنافسية الاقتصاد الوطني. وذلك من خلال الحد من مشكلة التهرب الضريبي واستخدام السياسات المنشطة للاقتصاد لرفع معدلات النمو وبالتالي زيادة الإيرادات العامة.
كما لا بد من ادخال قدر اكبر من التصاعدية الضريبية سواء فيما يتعلق بضريبة الدخل او ضريبة المبيعات، بحيث تعفى الفئات الفقيرة ومتوسطة الدخل من ضريبة الدخل وترفع معدلاتها تصاعديا بشكل يتناسب مع حجم الارباح المتحققة كما ويتم اعفاء جميع السلع الاساسية من ضريبة المبيعات مع رفعها بشكل يعوض ايرادات الخزينة العامة على السلع الكمالية.
3- ضرورة تحقيق قدر اكبر من المواءمة بين السياسة المالية والنقدية لتجنب انزلاقات الدورة الاقتصادية وخاصة في ظروف الأزمة الحالية.
4- من ناحية اقتصادية كلية لابد من المزاوجة بين الحد من الإنفاق الكلي بشقيه العام والخاص والتركيز على إستراتيجية زيادة الاستثمار والنمو للحد من مشكلة المديونية الخارجية على المدى الطويل، كما ولا بد ان يرافق ذلك سياسات اكثر فعالية لتحقيق توزيع اكثر عدالة لمكاسب النمو مما يحافظ على بقاء الطبقة الوسطى ويحسن من وضع الطبقة الفقيرة في المجتمع.
5- ان تحسين جودة المعلومات والبيانات الإحصائية حول مؤشرات الاقتصاد الكلي المختلفة وتحديثها بشكل مستمر وفي الوقت المناسب سيساعد في زيادة دقة السياسات والقرارات المتخذة وسيساهم أيضاً في تحسين بيئة الأعمال المحلية.
6- اعطاء دور اكبر لمؤسسات المجتمع المدني وممثلي الاحزاب في اعداد الموازنة العامة والعمل الجاد لزيادة درجة الشفافية والرقابة وخاصة فيما يتعلق بالمؤشرات الحيوية للميزانية العامة والمديونية الخارجية.
بالطبع فان تنفيذ هذه الحلول يتطلب مزيداً من الجهود الجادة لإكمال عملية الإصلاح الاقتصادي وتدعيم المؤسسية والارتقاء ببيئة الأعمال المحلية.
وأحد الشروط اللازمة لإنجاح ذلك هو ضرورة تحقيق قدر أعلى من الشراكة والتنسيق بين القطاعين العام والخاص بحيث يتعاضد الاثنان معاً في مواجهة كلفة هذه السياسات الاقتصادية على المدى الطويل، حيث أن أياً من هذه الحلول ليس سهلاً ويتطلب تضحية ملموسة من الطرفين في المدى القصير لتلافي حدوث أزمات اقتصادية ومالية حادة قد تهز الثقة في العملة الوطنية وبمؤشرات الاقتصاد الكلي بشكل عام.