قرأت كتاب "الصوت وبوابة الكون" لمؤلفته ساميا ساندري وسأقدم بعض ما أمكنني فهمه، فقد أنشأ لدي الكتاب كثيرا من الأفكار والآفاق الجديدة التي ربما لم تقصدها المؤلفة، وقد يشاركني القراء في هذا الرأي.الحضارة القديمة هي حضارة النطق، وكانت الذاكرة الفردية والجماعية والعادات والتقاليد هي الوسيلة الوحيدة للحفظ داخل المجتمعات، والصوت هو التعبير عن المقدس، الوحي كلام الله إلى الأنبياء، ثم الرسالة، والتراتيل الدينية، والأذان والغناء الديني، والحكمة والمعرفة حلت في اللغة، والتي هي صوت، والمسلم الذي يصلي خمس مرات في اليوم باستعماله اللغة العربية بأحرف علتها وحركاتها يلمس سر الكلمة وقدسيتها، ثم إن صوت المؤذن يجعل جسم المؤمن مستجيبا له.
وفي الديانة المسيحية تقليد قديم يرجع التسابيح والطقوس إلى مزامير وأناشيد باللغة الآرامية تتناقل شفهيا وتتميز على التراتيل الغريغورية المكتوبة بحيويتها، فالإنسان هو الذي يحيي النص الموسيقي، وعليه إعادة إحيائه، فالنص لا يوجد في حد ذاته، والموسيقى لا توجد في حد ذاتها، بل يجب إعادة إحيائهما، ويحتاج النص المكتوب إلى كثير من الإضافات ليصبح بشريا ومعبرا.
الإسلام أيضا يوحد بين الصوت والمقدس، كما في القرآن الكريم كلام الله المنزل، والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أملى على المؤمنين ما أوحى به الله إليه، وفي سورة العلق كانت أول آية نزلت هي: اقرأ، وهذا يعني اقرأ بصوت عال، وهذا معنى كلمة قورا بالسريانية، واللفظة ذاتها تظهر في اليونانية.
وعندما ينقطع التناغم بين الجسد والصوت يتعرض للقلق والإدمان والاكتئاب والسمنة، فالتوافق بين الجسد والصوت هو أساس الكائن، وقد يحتاج المرء إلى علاج صوتي أو علاج بالصوت ليعرف ذاته وموقعه في العالم، ويلجأ إلى جوهره، ويحسن الإصغاء وفهم لغة كل عضو من أعضاء جسمه.
وأصبحت الضجة في عصرنا مزعجة ومؤلمة لأنها تعدت طاقة تحملنا لها، فهي لا تصيب الأذن فقط، بل تتخطاها إلى الجسم كله، وتسبب توترا متكررا وتشوش المشاعر وتقلق ساعات النوم، فالتلوث الصوتي يضر بكل أعضاء الجسم، ويظهر هذا في ارتفاع ضغط الدم وتسارع دقات القلب واضطرابات الشهية والطعام والبرود والعجز الجنسي، وقد تسبب الأصوات القوية جدا الموت، وهي اليوم تسيطر على حياتنا، فخسر الإنسان السكوت الذي يسمح له بتأمين الفراغ حول الأذن الخارجية، فالصمت هو الرنة الأساسية الذي تصب فيه كل الأصوات والرنات الأخرى.
إن علم الصوت ليس سرا خفيا، والصوت أداة مؤلفة من مادة حية غنية ومتغيرة مثل الحياة نفسها، وهي أكثر الأدوات تعقيدا لأنها جزء لا يتجزأ من الكائن، فالصوت هو جوهر رصيد الإنسان.
ترتكز محاور تطبيق علاج الصوت وتوجيهاته على التواصل بطريقة أفضل مع الآخرين ومع البيئة المحيطة بواسطة الصوت، ويجب الاستماع أولا والفهم ثم تنسيق المعطيات وتنظيم التعابير والمواقف لتتكيف مع من يحاورنا، واكتشاف الجسد بالاسترخاء والتنفس بواسطة الحجاب الحاجز والتحرر والانفتاح والتواصل والكلام والرقص وذرف الدموع.
ومن المظاهر التي تنطوي عليها نظرية العلاج بالصوت أن يخلع المشاركون في العلاج أحذيتهم ويجلسوا متحلقين على الأرض، فالجلوس يساعد على التخلص من رموز الحياة وقيودها، وأما الوقوف فإنه يشجع على التفكير، وخلع الأحذية يجعل قدمي الإنسان تلامسان الأرض وتلتقطان منها الطاقة مباشرة ويعيد الجسم إلى محوره الطبيعي، ثم يعرّف كل شخص عن نفسه ببضع كلمات، ومن الأصوات والحركات الجسدية العطاس وإخراج الريح والتجشؤ، وهي تعابير عفوية للتخلص من الطاقة الزائدة وآثار الطعام والبرد، ويعتبر العربي التجشؤ على مائدته شكرا وتعبيرا عن أن الطعام لذيذ ولكن الغربي يعتبره غير لائق، ولا يتحرج الإنجليزي من إخراج الريح من الشرج ويعده أمرا طبيعيا، والبكاء وذرف الدموع هو حاجة ملحة للنضج والتصالح مع الذات، والتثاؤب يريح من التوتر.
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo