أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة السادسة) ـ القشة الأخيرة: خطف الطائرات قاد إلى المواجهة
27-10-2007 02:00 AM
المتطرفون الفلسطينيون شجعوا المتطرفين في الجانب الأردني ونسفوا أي موقف وسطلندن:عن «الشرق الأوسط»
لم يكن الملك حسين أو ياسر عرفات يرغبان في خوض معركة شرسة بغرض تسوية مسألة من كان يسيطر على الاردن، فكلاهما كان معتدلا يسعى إلى تثبيت أسس للتعايش، إلا ان كلاهما لم يكن يملك زمام السيطرة على بيته الداخلي. كلاهما عمل جاهدا على تفادي الاستقطاب، إلا ان المتطرفين في الجانب الفلسطيني شجعوا المتطرفين في الجانب الأردني ونسفوا بذلك أي موقف وسط في خضم تلك الأوضاع.
وقد شعر الفدائيون (المنظمات الفلسطينية) بالخيانة من جانب الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي قبل خطة روجرز، ولكن لم يكن في يدهم ما يفعلونه تجاهه وصبوا جام غضبهم على صديقه في الاردن. وقال عرفات في 15 أغسطس (آب): «قررنا ان نجعل من الاردن مقبرة لكل المتآمرين، وستكون عمان هانوي الثورة». القشة الاخيرة التي قادت الى المواجهة، كانت اختطاف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أربع طائرات غربية تقل عدة مئات من الركاب واجبارها على الهبوط في مهبط مهجور بالقرب من مدينة الزرقاء.
وفي حلقة اليوم من كتاب «أسد الأردن»، الذي تنفرد «الشرق الاوسط» بنشر حلقات منه وسينزل الى الاسواق قريبا لمؤلفه المؤرخ البارز آفي شليم البروفسور في جامعة اكسفورد العريقة، الكثير من اسرار هذه الازمة، وقصة التدخل العسكري السوري في الاردن، واتصالات الملك حسين لتأمين غطاء جوي، ومواقف البريطانيين الذين كانوا يعتقدون ان النظام لن يقوى على البقاء والخلاف بين الخارجية الاميركية والاستخبارات (سي آي ايه) حول الازمة.
رفض الملك حسين نصيحة الشريف ناصر بن جميل، مثلما رفض نصيحة مماثلة إبان أزمة ابريل (نيسان) 1957. التنازل والمنفى كانا في ما يبدو سيان بالنسبة للشريف ناصر، إلا أن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للمك حسين. فالشريف ناصر ينتمي إلى فرع الأسرة الهاشمية، الذي طرد من بغداد عام 1958، والعيش في المنفى بالنسبة لهم كان وضعا مألوفا. اما بالنسبة للملك حسين، فقد ولد ونشأ في الاردن ولم يعان من الشعور بأنه غريب. كما ان إحساسه بالانتماء للأردن وشعبه عزز لديه الشعور القوي بأن واجبه، كهاشمي، ان يحكم ويقود البلاد. وكان مصمما تماما على التمسك بموقفه والمضي قدما والدفاع عن حكمه. ويمكن القول ان التنازل بدا بالنسبة له خيارا سهلا معادلا للجبن والخيانة.
اجتاز الملك حسين في نظر الأمير زيد بن الحسين اختبار الملك الهاشمي بنجاح تام. زيد هو الابن الأصغر للحسين شريف مكة، والوحيد الذي لم يصبح ملكا عقب التمرد العربي ضد الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. زار الأمير زيد بن الحسين الاردن مطلع يونيو (حزيران) 1970، وكان في ذلك الوقت مقيما في بغداد، واستقبل الملك حسين الأمير زيد، الذي كان في ذلك الوقت في الثانية والسبعين من عمره، في المطار واصطحبه إلى قصر الندوة. اندلع القتال بين الجيش الأردني والفدائيين (المنظمات الفلسطينية) في اليوم التالي لوصول الضيف الملكي، وتعيّن عليه البقاء داخل القصر لفترة عشرة أيام، توفرت له الفرصة خلالها في الوقوف عن كثب على كيفية تعامل الملك حسين مع الجيش والحكومة وترتيبات وقف إطلاق النار مع منظمة التحرير الفلسطينية. تركت تلك التجربة انطباعا ايجابيا لدى الأمير زيد عن الملك الشاب، وهو يحاول معالجة الأوضاع في خضم المشاكل والضغوط والتحديات التي كانت تواجه البلاد خلال تلك الفترة. وابلغ الأمير زيد قبل مغادرته الاردن ابنه رعد بأنه يعتبر الملك حسين العضو الأكثر أصالة واقتدارا وشجاعة في الأسرة الهاشمية وأعظم زعيم وسط ملوك الأسرة الهاشمية. لم يكن أي من الملك حسين أو ياسر عرفات يرغب في خوض معركة شرسة بغرض تسوية مسألة من كان يسيطر على الاردن. فكلاهما كان معتدلا يسعى إلى تثبيت أسس للتعايش، إلا ان كلاهما لم يكن يملك زمام السيطرة على بيته الداخلي. كلاهما عمل جاهدا على تفادي الاستقطاب، إلا ان المتطرفين في الجانب الفلسطيني شجعوا المتطرفين في الجانب الأردني ونسفوا بذلك أي موقف وسط في خضم تلك الأوضاع. وفي 10 يوليو (تموز) 1970 وقّع كل من الملك حسين وياسر عرفات اتفاقا لوقف إطلاق النار اعترف باللجنة المركزية للمقاومة الفلسطينية، وأضفى شرعية على وجود الفدائيين في الاردن. وتعهدت الحكومة الأردنية من جانبها بإلغاء إجراءات الطوارئ التي تبنتها خلال الأزمة، فيما التزم الفدائيون من جانبهم بالسيطرة على أعضاء المنظمات الفلسطينية، وجرى تشكيل لجنة مشتركة لتطبيق الاتفاق. إلا ان النزاع بين الجانبين برز مجددا اثر الإعلان عن مبادرة دبلوماسية أميركية جديدة للتوصل إلى سلام بين الدول العربية وإسرائيل، إذ اعلنت «خطة روجرز» الثانية التي نادت بوقف لإطلاق النار وتهدئة الأوضاع على طول قناة السويس وتفعيل مساعي غونار جارينغ مجددا لحمل طرفي النزاع على التوصل إلى اتفاق سلام على أساس قرار مجلس الأمن رقم 242. كان الملك حسين مؤيدا لخطة روجرز الثانية، لكنه كان في حاجة إلى توفيق خطواته مع عبد الناصر (الرئيس المصري)، الذي كان تأييده أمرا ضروريا في النزاع الذي كان يعتمل داخل الاردن مع الفدائيين. وفي 24 يوليو (تموز) قبلت الحكومة المصرية المبادرة الأميركية الجديدة وأعلن الاردن بعد يومين من ذلك التاريخ قبوله له، وكتب الملك حسين برقية إلى عبد الناصر جاء فيها: «ما تقبلونه نقبله، وما ترفضونه نرفضه». إلا ان عرفات من جانبه رفض المقترحات الأميركية، لكنه تحاشى شن هجوم شخصي على عبد الناصر أو الملك حسين. اما اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فقد أدانت المقترحات ووصفتها بأنها مخطط يهدف إلى تصفية المقاومة الفلسطينية. هاجمت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عبد الناصر والملك حسين بصورة مباشرة وبلهجة قوية ونظمتا مظاهرات سلمية ضد الخطة. قبلت الحكومة الإسرائيلية خطة روجرز الثانية، ولكن بعد ان انسحب مناحيم بيغن ورفاقه في حزب جاحل اليميني احتجاجا على ما اعتبروه مخططا لإخراج إسرائيل من الضفة الغربية. شعر الفدائيون بالخيانة من جانب عبد الناصر، ولكن لم يكن في يدهم ما يفعلونه تجاه ذلك، لذا صب الفدائيون جام غضبهم على صديقه في الاردن. وقال عرفات في 15 أغسطس (آب) قررنا ان نجعل من الاردن مقبرة لكل المتآمرين، وستكون عمان هانوي الثورة». شأن كل الحروب الأهلية، لم تكن الحرب الأهلية في الاردن استثناء في التعقيد والتشابك وتداخل الأمور مع بعضها بعضا. كان للجيش الأردني تفوق واضح في العدد والعتاد مقارنة بالفدائيين. فقد كان يتشكل من قوات جيدة التدريب والتجهيز قوامها 56000 جندي وضابط في مواجهة 15000 من أفراد ميليشيات فلسطينية مزودين بأسلحة خفيفة وتم تدريبهم على عجل، إلا ان وجود آلاف الفلسطينيين في صفوف الجيش الأردني كان مصدر خطر لحدوث انقسام في أوساط الجيش واحتمال ترك بعض القادة الفلسطينيين صفوف الجيش الأردني إذا تلقوا تعليمات بإطلاق النار على الفدائيين الفلسطينيين. وعلى الجانب الآخر، هناك عدد من مجموعات حرب العصابات المنفصلة والمنقسمة، التي تدعمها دول عربية منافسة، وبصورة عامة لم تكن المسألة مواجهة مباشرة بين الجيش الأردني والفدائيين، بقدر ما كانت حربا أهلية عربية داخلية يتلقى الفدائيون الدعم فيها من كل من سورية والعراق والجزائر وليبيا ضد الحكم الملكي الأردني، وتقف فيها مصر موقفا وسطا غير مؤكد. كان يدرك الملك حسين ان تحت تصرفه قوة عسكرية تمكنه من سحق الفدائيين، إلا انه كان من الصعب التكهن بالنتيجة النهائية لمواجهة يتلقى فيها الفدائيون دعما خارجيا. وبما ان الكثير من الاحتمالات لم تكن في صالحه، فقد كان احتمالا واردا ان ينتهي إلى الخسارة في نهاية الأمر إذا لم يتلق هو أيضا دعما خارجيا. وفي ظل تلك الأوضاع كان مصدر الدعم الوحيد أمامه الولايات المتحدة وإسرائيل. استهل الفدائيون المواجهة في 1 سبتمبر (أيلول) 1970 عندما تعرض موكب للملك حسين في طريقه إلى المطار لإطلاق نار مكثف، وكانت تلك هي المرة الثانية التي يتعرض فيها العاهل الأردني للاغتيال خلال فترة ثلاثة أشهر. وأشعلت تلك الحادثة القتال بين القوات الموالية للملك حسين والفدائيين في عدة مناطق في العاصمة عمان. أرسلت الحكومة العراقية إشارة إلى الاردن أوضحت فيها ان القصف الأردني إذا لم يتوقف فإنها «لن تتمكن من وقف أفراد القوات العراقية من التدخل لصالح الفدائيين. وكانت القوات العراقية المؤلفة من 17000 جندي وضابط مرابطة في الأردن منذ حرب يونيو (حزيران) 1967. وفي وقت لاحق من نفس اليوم توجه زيد الرفاعي، الذي كان وقتها رئيسا للديوان الملكي، إلى السفارة الأميركية في عمان، وأبلغ مسؤوليها بالتحذير العراقي وأعرب عن أمله في تلقي الاردن دعما أميركيا. طلب الرفاعي أيضا معرفة ما إذا كان لدى السفارة الأميركية أي فكرة حول رد إسرائيل المحتمل في حال تحرك العراق. جدير بالذكر ان الرفاعي كان طالبا لهنري كيسينغر في جامعة هارفارد، وكان من مؤيدي وجهة نظر لكيسينغر تتلخص في أن العلاقات الدولية أمر يتصل بالقوة ومصالح الدول أكثر منها بالمشاعر والأخلاقيات. إلا ان الجانب الأميركي واجه صعوبة في الإجابة على تساؤلات الرفاعي بسبب خلاف جدي في الرأي بين وزارة الخارجية الأميركية من جهة ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والبيت الأبيض من الجهة الأخرى. فوجهة نظر وزارة الخارجية الأميركية كانت تتلخص في أن النظام الملكي الأردني لن يصمد وأن الفدائيين سيفرضون سيطرتهم، وبالتالي فإن أفضل سياسة هي عدم المراهنة عليه بصورة كاملة وانه من الأفضل فتح خطوط اتصال بالمعارضة. كانت تلك في واقع الأمر وجهة نظر السفير هاري سيمز، الذي كان متعاطفا مع الفلسطينيين. وبتنصت أجهزة الأمن على هاتفه تبيّن انه كان على اتصال ببعض قادة الفدائيين، واعتبرته السلطات الأردنية شخصا غير مرغوب فيه وجرى استدعاؤه للولايات المتحدة. افترض كيسينغر ان إسرائيل لن تقف متفرجة في حال تحرك القوات العراقية المرابطة في الاردن باتجاه حدودها في حال احتلال الفدائيين منطقة وادي الأردن، كما انه أدرك ان انضمام قوات إسرائيلية إلى جانب الملك حسين في هذا النزاع ليس بالأمر العادي، وكتب في هذا السياق: «في إطار دفاعه عن استقلاله السياسي، ليس للملك حسين دافع في نسف موقفه الأخلاقي في العالم العربي». كما جاء رد القائم بالأعمال الأميركي في سفارة الولايات المتحدة في عمان على استفسارات الاردن المتكررة حول النوايا الإسرائيلية بأنه لا يستطيع ان يتخيل قبول الاردن مساعدة من عدوتها إسرائيل ضد دولة عربية.
خلال انتظار الاردن استجابة من حلفائه تعرضت سلطة الملك حسين لتحد خطير، عندما اختطفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أربع طائرات غربية تقل عدة مئات من الركاب، وأجبرتها على الهبوط في «دوسونز فيلد»، وهو مهبط مهجور بالقرب من مدينة الزرقاء. عرض الخاطفون إطلاق سراح الرهائن باستثناء من يحملون جنسيات إسرائيلية أو إسرائيلية ـ أميركية مزدوجة مقابل إطلاق معتقلين فلسطينيين في سجون سويسرية وألمانية وبريطانية. وفي 14 سبتمبر (أيلول) ناشدت صحيفة كانت تصدرها حركة فتح بالدخول في إضراب عام في الأردن وإقامة سلطة وطنية في البلاد تعزل «العناصر الحاقدة والعملاء من الدولة والجيش وأجهزة الأمن». وفي اليوم التالي استولى الفدائيون على مدينة اربد وأعلنوها منطقة محررة تحت حكومة شعبية. بدأ المجتمع الدولي يشك في مقدرة الملك حسين على حكم مملكته. كما بدأت تشك أيضا في اعداد متزايدة من قوات البدو الموالية له. اختطاف الطائرات كان بالنسبة للملك حسين بمثابة القشة الأخيرة. فمنذ بداية أزمة الاختطاف ظل يخضع لضغوط متواصلة من جانب الجيش ومستشاريه المقربين ومن اخويه محمد وحسن كي يتخذ خطوات لتعزيز سلطته. الجيش كان على حافة التمرد، وسيطر المتشددون في أوساطه على الأمور ولم يعد ممكنا حملهم على المزيد من ضبط النفس. وفي قمة تلك الأزمة استقال رئيس هيئة أركان الجيش الأردني، منصور حديثة، وهو معروف بتأييده للفلسطينيين، ليحل محله المشير حابس المجالي، الذي استدعي من التقاعد. بعض المراقبين كان يعتقد بان الملك حسين فقد أعصابه خلال الأزمة، إلا ان التفسير الأرجح هو انه آثر عدم اتخاذ أي خطوة عنيفة وقاسية لأنه لم يكن يرغب في التأثير سلبا على موقفه كملك لجميع الأردنيين. فهو صبور بطبعه ويدرك جيدا أهمية التوقيت. ويمكن بصورة عامة تحديد ثلاث مراحل في سياسة الملك حسين في تعامله مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1970: التصالح ثم الاحتواء ثم المواجهة. كان يريد العاهل الأردني ان يدرك شعبه جيدا انه فعل كل ما لديه لتجنب نزيف الدم. وكانت عمليات خطف الطائرات في ذلك الوقت قد أحدثت تحولا في اتجاهات الرأي العام، في نهاية المطاف لم يكن في صالح الفدائيين داخل الأردن وخارجه. استدعي الملك حسين أقرب مستشاريه إلى اجتماع طارئ، وكان من بين المدعوين وصفي التل وزيد الرفاعي والشريف زيد بن شاكر وحابس المجالي، وجميع هؤلاء من الذين ظلوا يحثون الملك حسين على مدى فترة على شن حملة مشددة على الفدائيين. وقال العسكريون في ذلك الاجتماع ان عملية إخراج الفدائيين من المدن الرئيسية ربما تستغرق يومين أو ثلاثة. قبل اصدار تعليمات للجيش بالتحرك اتخذ الملك حسين قرارا بعزل الحكومة المدنية وتعيين حكومة عسكرية برئاسة اللواء محمد داؤود، وهو اصلا فلسطيني، لكنه من الموالين للملك حسين ومن المؤيدين لاتخاذ خطوة صارمة دفاعا عن النظام. وكان الملك حسين يفضل النظر إلى المواجهة المحتملة ليس على اعتبار كونها حربا بين الأردنيين والفلسطينيين، وإنما صراع بين قوى القانون والنظام وقوى الفوضى. بدأت الحرب الأهلية في ساعة مبكرة من صباح يوم 17 سبتمبر (أيلول). دخل اللواء 60 المدرع العاصمة عمان من اتجاهات مختلفة وبدأ في قصف معسكري الوحدات والحسيني للاجئين الفلسطينيين، حيث المقر الرئيسي للفدائيين الفلسطينيين، وكان الفدائيون على استعداد جيد وابدوا مقاومة ضارية. لم تقتصر عمليات القصف المتواصل بالدبابات والمدفعية والهاون على معاقل الفدائيين فحسب، بل اشتملت على مراكز يقطنها مدنيون فلسطينيون داخل وخارج العاصمة عمان. تواصل القتال المكثف من دون توقف على مدى الأيام العشرة التالية، وظل الجيش الأردني في نفس الوقت يحاصر ويقصف مدنا أخرى يسيطر عليها الفدائيون، مثل اربد وجرش والسلط والزرقاء، لكنه لم يحاول دخولها. لم يكن هناك قتال من منزل إلى منزل ومن شارع إلى آخر، مثلما هو الحال في العاصمة عمان، وإنما سويت الكثير من أبنية الشقق السكنية بالأرض، وأسفر الدمار عن وقوع عدد كبير من الضحايا، وكان عدد القتلى، طبقا لإحصائيات منظمة التحرير الفلسطينية 3400 خلال الأيام العشرة الأولى من القتال. ويلاحظ عدم دقة تقديرات العسكريين الأردنيين المبكرة التي قالوا فيها ان عملية إخراج الفدائيين من المدن الأردنية تحتاج إلى يومين أو ثلاثة أيام. ومع استمرار القتال زادت ضغوط القادة العرب على الملك حسين لحمله على التوصل إلى تسوية مع الفدائيين. التدخل الخارجي الذي كانت تتخوف منه الاردن أصبح واقعا عندما عبرت قوة سورية مدرعة صغيرة الحدود الأردنية بالقرب من الرمثاء باتجاه مدينة اربد، التي كانت تحت سيطرة الفدائيين، تبعه توغل آخر أكبر حجما في وقت لاحق من نفس اليوم. لم تتضح دوافع التوغل السوري ولم يصدر بيان بشأنه، إلا ان كل المؤشرات كانت تدل على ان القيادة السورية كانت تهدف إلى مساعدة الفدائيين في إطاحة الملك حسين. ولكن حتى إذا كان ذلك هو هدف القيادة السورية، لم يتضح أيضا السبب وراء حذر التدخل السوري وحصره ضمن دائرة محددة. إلا ان التفسير الأرجح هو ان القادة السوريين كانوا يريدون حماية الفلسطينيين من حدوث مذبحة، وذلك من خلال تأمين ملاذ لهم شمال الأردن يمكنهم منه التفاوض مع الملك حسين. دعا الملك حسين إلى اجتماع طارئ مساء ذلك اليوم كان الغرض منه الحصول على موافقة الحكومة الأردنية الجديدة، التي لم يتعد عمرها ثلاثة أيام، على طلب مساعدة خارجية إذا دعت الضرورة. غالبية وزراء تلك الحكومة كانوا من العسكريين، وكان الملك حسين قائدهم العام، لذا كان الاكثر اثارة للدهشة ان الملك اختار ان يستشيرهم بدلا من ان يصدر أوامر. تركز حديث الملك حسين إلى حكومته في ذلك الاجتماع الطارئ في ان قوات سورية دخلت الاردن وتتقدم باتجاه اربد، على الرغم من تصدي القوات الأردنية لها، وانه كخطوة احترازية ربما تحتاج البلاد إلى طلب مساعدة من أصدقاء، وانه يريد منهم منحه تفويضا لطلب هذا المساعدة إذا دعا الأمر. لاحظ الملك حسين نوعا من عدم الشعور بالارتياح على وجوه وزرائه وقال لهم انه أراد فقط طرح الفكرة عليهم على ان يناقشوها ويبلغوه برأيهم عندما يتوصلون إلى قرار بشأنها، وغادر غرفة الاجتماعات. برزت مواقف متباينة إزاء مقترح الملك حسين. ففريق من الوزراء كان يرى ان القضية مسألة عربية داخلية، وعارضوا بشدة طلب مساعدة خارجية، فيما كان يرى فريق ثان ان الأردن يخوض صراعا من أجل البقاء ورأوا تبعا لذلك ان لا غضاضة في طلب مساعدة من دولة صديقة، على ان تكون الولايات المتحدة أو بريطانيا وليست إسرائيل. لم يساور أي من أفراد الفريقين شك في ان (الدولة الصديقة) المذكورة من المحتمل ان تكون إسرائيل. وفي نهاية النقاش غلب رأي الفريق الثاني ومنح الملك حسين التفويض الذي طلبه. تقدم الملك حسين بأول طلب للمساعدة إلى السفارة البريطانية، بسبب تعذر الاتصال بالسفارة الأميركية، وطلب على وجه التحديد «تدخلا جويا من إسرائيل أو غيرها» ضد القوات السورية، وطلب من الحكومة البريطانية النظر في هذا الطلب وتوصيله إلى إسرائيل. قوبل الطلب بمعارضة بالإجماع من جانب بريطانيا، ذلك ان خبراء الخارجية البريطانية كانوا يعتقدون ان الفلسطينيين سيكسبون الصراع في نهاية المطاف، وأن أي تدخل من جانب بريطانيا لإنقاذ عرش الملك حسين سيلحق ضررا بمصالحها في العالم العربي، وسيقابل باستياء واسع من جانب الدول العربية، فضلا عن وجهة نظر طرحت بصورة واضحة ومباشرة، تلخصت في ان «الاردن دولة غير قابلة للبقاء والاستمرار». رفضت الحكومة البريطانية فكرة التدخل العسكري في الاردن واكتفت بإبلاغ الرسالة إلى الجانب الأميركي، وتركت أمر إبلاغ الرسالة إلى إسرائيل لتقدير الجانب الأميركي. عقب الاتصال بالسفير البريطاني أجرى الملك حسين مباشرة اتصالا بالسفير الأميركي، دين براون، الذي كان قد وصل إلى الاردن إبان أزمة الرهائن ووصل إلى القصر الملكي على متن مركبة مصفحة لتقديم أوراق اعتماده. وتقدم الملك حسين للسفير الأميركي بطلب لتنفيذ ضربات جوية وغطاء جوي «من أي طرف»، لكنه لم يذكر اسم إسرائيل على وجه التحديد، غير ان مضمون طلبه أرسل إلى ممثل إسرائيل في واشنطن. نيكسون وكيسينغر كانا ينظران إلى دخول القوات السورية الاردن كونه تحديا سوفياتيا وان السوفيات يدفعون السوريين، والسوريون بدورهم يدفعون الفلسطينيين. كان نيكسون يعتقد أيضا ان الكرملين هو الذي دبر الأزمة الأردنية بغرض تشكيل تحد أمام مصداقية الولايات المتحدة في العالم الثالث. مضى نيكسون وكيسينغر قدما في الاستجابة بقوة لطلب الملك حسين المساعدة، وصادق نيسكون على كل توصيات كيسينغر بشأن إعادة نشر قوات أميركية، وصدرت بالفعل التعليمات بوضع الفرقة 82 الأميركية المحمولة جوا على اهبة الاستعداد، كما صدرت تعليمات أيضا بتوجه الأسطول السادس باتجاه منطقة النزاع شرق المتوسط. وكان كيسينغر يفضل تدخلا عسكريا إسرائيليا ضد القوات السورية مع تأهب الولايات المتحدة لمنع أي تدخل سوفياتي ضد العمليات الإسرائيلية، إلا ان نيكسون لم يكن ميالا إلى الاعتماد على القوات الإسرائيلية وكان يريد ان تستخدم القوات الأميركية فقط إذا باتت المواجهة خيارا لا بد منه. في مساء نفس اليوم تلقى نيكسون رسالة عاجلة من الملك حسين عكست قلقا بالغا من جانب الملك حسين وحملت نيكسون على العدول عن رأيه فيما يتعلق بتدخل القوات الإسرائيلية. فقد ابلغ الملك حسين نيكسون في تلك الرسالة بأن القوات السورية احتلت مدينة اربد وان قلقا وانزعاجا قد بدأ وسط القوات الأردنية في العاصمة عمان. جاء في الرسالة أيضا ان توجيه ضربات جوية للقوات الغازية السورية بات أمرا لا بد منه بهدف إنقاذ البلاد وانه ربما يطلب عاجلا قوات أرضية أيضا. كما طلب أيضا من الأميركيين إبلاغ بريطانيا بمحنته. وفي مساء 21 سبتمبر (أيلول) 1970 تلقى الملك حسين رسالة من آلون، الذي كان في ذلك الوقت رئيس وزراء مكلفا، سعى من خلالها إلى طمأنة جاره إلى ان إسرائيل لن تستغل الصعوبات التي يعاني منها على الصعيد الداخلي، وان إسرائيل على استعداد لمساعدته ضد اي واحد من أعدائه العرب. وبعد حوالي ساعة تقريبا رد الملك حسين على آلون شاكرا له اهتمامه، ومؤكدا له ان الوضع لا يزال خطرا للغاية في الشمال وان حدوث تطورات أمر وارد، كما أبلغه أيضا ان ذلك سيتطلب خطوة فورية. أبلغ الملك حسين آلون في نفس الرسالة انه كان يود ان يكون اللقاء شخصيا إلا ان ذلك غير ممكن في تلك الظروف، لكنه أعرب عن أمله في ترتيب لقاء قريب. ويمكن القول ان رد الملك حسين لآلون عكس ارتياحه لعودة الاتصال المباشر «عبر النهر» ورغبته في الإبقاء على كل الاحتمالات مفتوحة. جزء من المشكلة كان يكمن في ان الملك حسين ظل يعدل عن رأيه باستمرار خلال ذلك اليوم بشأن المساعدة التي كان يحتاجها الجيش الأردني. ففي الصباح طلب تنفيذ ضربات جوية عاجلة لوقف تقدم المدرعات السورية، وفي رسالة ثانية بدا منزعجا وقلقا وأشار إلى انه ربما يطلب مساعدة في شكل قوات أرضية أيضا. شهد يوم 22 سبتمبر (أيلول) تحولا كاملا في الوضع. فقد اصدر الملك حسين تعليمات لقواته الجوية بشن غارات على مواقع القوات السورية شمال الاردن. وبفعل الهجوم الجوي والبري تكبدت القوات السورية خسائر كبيرة، ودلت مؤشرات مبكرة على ان القوات السورية بدأت تستعد للانسحاب من اربد والمنطقة المحيطة بها وبدأت تنسحب بالفعل عبر الحدود بعد ان خسرت 120 دبابة وحوالي 600 قتيل. كما ان الانسحاب السوري مكّن الجيش الأردني من شن هجوم شامل على الفدائيين وإخراجهم من المدن ومن معاقلهم الرئيسية. وقعت خسائر كبيرة في صفوف الفلسطينيين والقي القبض على بعض قادتهم، إلا ان 300 جندي وضابط انشقوا عن الجيش الأردني من بينهم قائد لواء للمشاة. النجاح الذي حققه الجيش الأردني في ميدان المعركة جعل الملك حسين مترددا مرة أخرى تجاه طلبه مساندة إسرائيلية ضد سورية. الإسرائيليون كانوا على استعداد لتنفيذ عمليات أرضية ولكن داخل حدود الاردن فقط، وليس داخل الأراضي السورية، إلا ان المساعدة الإسرائيلية لم تعد مطلوبة. وصل الملك حسين إلى القاهرة في 26 سبتمبر للمشاركة في القمة العربية وسط استقبال عدائي من رؤساء وقادة الدول العربية ولقاء بارد مع عرفات، إلا أنهما وقّعا اتفاقا في اليوم الثاني بحضور عبد الناصر الذي لعب دور الوسيط، ونص اتفاق القاهرة على وقف فوري لإطلاق النار في كل أنحاء الاردن وسحب الجيش الأردني وقوات المقاومة الفلسطينية من كل المدن في مساء نفس اليوم، وإطلاق سراح كل المعتقلين وتشكيل لجنة عربية لمراقبة تنفيذ الاتفاق الذي جرى التوصل إليه. أزمة سبتمبر 1970 بالنسبة للملك حسين ترتبت عليها عواقب وأفرزت دروسا أيضا. فمن ناحية، سلطت الأزمة الضوء على عزلة الأردن في العالم العربي واعتماده على الدعم الغربي والإسرائيلي. الدول العربية المنتجة للنفط قطعت دعمها للأردن عقب قمع الفدائيين، ولكن من الناحية الأخرى، أثارت شجاعة وحسم الملك حسين في الدفاع عن حكمه في مواجهة التحدي الفلسطيني ـ السوري إعجاب القوى الغربية وإسرائيل.
* غدا : حرب اكتوبر: السادات قال للرفاعي أدرك أنني لست طرزان