لا أحبّ البلاغة الانشائية حول المواطنة والانتماء، لكني آخذ على محمل الجدّ كثيرا كل ما يتصل بالسلوكيات التي تعكس معاني المواطنة الصالحة. تصرف الفرد مع كل ما يتصل بالشأن العام يقول بدقة كل شيء عن درجة تقدم الدول والمجتمعات، أو تخلفهالتحسين سلوك الفرد لا تكفي المواعظ، اذ يجب على الدولة ان تسهر على "فرض" السلوك الصحيح، ابتداء بتعقب المتنزهين الذين يتركون المهملات على الارض وتغريمهم (هل هناك غرامة قانونية على ذلك؟)، أو يلقون شيئا من نوافذ السيارات على الطرق.
وقد قرأنا أول من أمس ان النظام الجديد الذي وضعته أمانة عمّان للرادارات المحمولة على السيارات، والتي تخالف ايضا إلقاء الفضلات أو الورق من السيارات، حقق 1400 مخالفة خلال شهر. نحيي هذا العمل، وان كنت ارغب أن يتم تسيير دوريات توقف على الفور من يلقي ورقة من نافذة السيّارة.
مع ذلك، قرأت تعليقا في احدى الصحف يستهجن ما فعلته الأمانة، ويستغرب اهتمامها بمخالفة مواطن على "بضع وريقات قد تكون تسربت من السيارة"! بينما عليها ان تهتم بنظافة عمّان، حيث تتراكم النفايات في مناطق شعبية. وأعتقد أن من يرمي "وريقات" من السيارة هو نفسه من لا يبالي بإلقاء النفايات خارج البيت او المحل كيفما اتفق، وواجب الأمانة في تحسين خدمات النظافة لا يتعارض، بل يتكامل، مع واجبها في فرض السلوك القويم على الأفراد الذين لا يحترمون مكان العيش المشترك، وهو كل الأرض التي نعيش عليها، أو بعبارة رومانسية "الوطن الذي نتفيأ".
وسوف يسارع أحدهم إلى القول إن الوطن يجب ان يعطي حتى يأخذ، والدولة يجب ان تخدم المواطنين الذين يدفعون الضرائب حتى يشعر المواطن بالواجب وبالانتماء. ونقول مرّة أخرى إننا نريد هذا وذاك، ولكن لا نقبل التذرع بتقصير الدولة لتبرير كل سلوك متخلف.
نؤيد الموظف في شكواه من راتبه الضئيل، لكن على الموظف ان يسأل نفسه في نهاية الدوام ما اذا كان قد عمل بما يحلّل راتبه حقا. وقد حصلنا قبل يومين على مفاجأة جميلة حقا، حين قام جلالة الملك بتكريم موظفين عاديين بأوسمة من دون قضيّة خاصّة لأي منهم، بل فقط بسبب سلوكهم الوظيفي المتسم بالنزاهة والولاء الحقيقي والعميق للعمل الذي يقومون به. وهذه الأوسمة لا تخصّ هؤلاء الأشخاص بعينهم، فهم عيّنة تم تحميلها رسالة الى الجميع. والأجمل أن الأمر لم يقتصر على موظفي الدولة؛ فمثلا، تم تكريم صاحب كشك كتب، فقط لأنه نموذج رائع على الانتماء والحبّ العميق والخلاّق للعمل الذي يقوم به. قد لا يكون أبو علي معروفا لأغلبية المواطنين، لكنه أسطورة عند المثقفين وقارئي الكتب، مهمته التي يعيش من أجلها منذ عقود هي توفير الكتب الجيدة أو غير المتوفرة، وهو يستطيع أن ينصحك بما يستحق الاطّلاع عليه، اضافة الى توفير ما تطلبه. وبالتأكيد، لم يخطر على باله يوما ان يحصل على وسام ملكي.
وكان مشهدا مؤثرا ان ترى الى جانب شخصيات معروفة مواطنين عاديين، يعملون في مواقع ووظائف عادية. ولا بدّ ان جلالة الملك كان من اسعد الناس وهو يقلد هؤلاء الناس الأوسمة. والحق أن من خطرت له هذه المبادرة يستحق ايضا وساما.
jamil.nimri@alghad.jo