إلى أرض الأحياء تاق السّيدُ للسّفر
أمجد ناصر
26-10-2007 02:00 AM
وداعا سركون.
لن نلتقي بعد الآن في (السالوتيشن بب). لن نمشي في شارع (الملك) حيث يكلِّم الكاريبيون أنفسهم وتلسع (بنسات) البرد جيوب الهنود المهرولين الي العمل وتنتفخ أوداج الكادحين الانكليز بالبيرة المرَّة وخلِّ (السايدر).لن نلتقي بعد الآن في تلك الحانة الداكنة التي جلجلت بين جنباتها أفضل ضحكاتك وأكثرها عافية. لن نلتقي هناك. لن تري (أبراها) وهو يحمل الفانوس أمامك، كمريد مفتون، في ليل (آكتون)، ولن تراني أهوي بقبضة يدي علي الطاولة، فيجفل فتي بشعر طويل يجلس علي برندة اسمنتية في (المفرق) يحلم بكنز في جزيرة بعيدة.
لن نلتقي بعدُ، لأنك لن تأتي إلي لندن التي قذفتني إليها قلوعي الممزقة بعد ترحال طويل، مثل ترحالك، بحثا عن جزيرة الكنز. ربما يبقي جسدك، ذلك المركب المنهك، الذي دفعه المهربون، ذات يوم بعيد، وراء حدود (القائم)، في برلين. وربما يطلبه أهلك الآشوريون المنفيون من بلاد النهرين إلي أمريكا. ليس هذا مهما. ليس مهما بعدُ أين يذهب ذلك الجسد ـ المركب ما دام قد رسي، أخيرا، حيث ترسو كل المراكب. لكنّ الأكيد أنَّ الروح (إن كانت شيئا آخر غير ذلك النمر المتحفز وراء القفص الصدري) ستذهب الي مكانها الأول. إلي تلك الشوارع المتربة والشمس الشرسة والوضوح السافر للأشياء. هناك في (الحبانية) أو في (كركوك) حيث انهمك بناؤ مراكب وقلوع غامضون بتجهيز مركب السيد الآشوري للسفر. أنا شبه متأكد من ذلك. ربما لأنك أكثر العراقيين الذين عرفتهم عراقيةً. وربما لأنك شاعر، والشاعر، لسبب ما، يعود دائما إلي (الهناك). ورغم أنَّ مركبك خلَّعه السفر في الاتجاهات غير أنك ظللت تسمع، أبدا، موسيقي ذلك الزقاق البغدادي (حيث غمزت لك نجمة وانسرحت فوق جبينك نسمة ليلية وعرفت، بأصفي يقين، أنك أبدا لن تموت) الا بعد ان تودع رسالتك في زجاجة ستصل، حتما، الي حيث ينبغي لها ان تصل. ففي شِعرك، في عينيك الضاحكتين، أيها السندباد البغدادي، ترفع المراكب قلوعها بحثا عن ريح رضية تعود بك إلي (هناك). من كتب أكثر منك عن المراكب، عن المرافيء، عن القلوع، عن أنواع الرياح، عن مسافرين عيونهم الي الوراء، عن التاركين ملاحظات عن الأحوال، عن مخططات لمدن يغادرها الغرباء ما ان يحلوا بها؟
لا أعرف شاعرا عربيا اكتظت مدونته بهذا التيه البحري ووحشة الطرق، بتلك الفنارات التي تتلامع فيها أضواء مضللة، بأولئك المسافرين الذين يتركون علامات يائسة في خانات مهجورة لقادمين قد تخدعهم كثرة الطرق.
الفانوس، الليل، النجوم، المراكب، المحطات، الفنارات، العواصف، الأرصفة الباردة، أسرّة الوحدة، تلك هي مجازاتك الأثيرة. تلك هي الاستعارات التي (عشت) بها وكتبت قصيدتك بحبرها الداكن. هناك طرق مختلفة تؤدي الي روما، أنت قلت هذا، لكن من يقرؤك، أيها الشاعر العراقي الذي طعَّم العربية بوجع آشوري مكتوم ، يعرف أن الطرق الي روما ليست كثيرة، وأنَّ (لا طريق سوي الطريق). بوصلة أعماقك تشير بإبرتها المترنحة الي ذلك. كأنني أسمع، وأنا أقرؤك، أنفاسا تأتي من ناحية (إيثاكا)، من صوب ذلك السيد اليوناني الذي يقف بزاوية منحرفة عن الكون قليلا. فعلي (عوليس) أن يواصل رحلة العودة، عليه، كقدر إغريقي لا مناص منه، أن يمضي في الطريق مواجها العواصف والأنواء في اتجاه (إيثاكا)، عليه أن يغضب بعض الآلهة، عليه أن يحلم بـ (بنلوبي) نديةً منتظرة، ولكن عليه أن لا يتوقع أن تكون (إيثاكا) غير (إيثاكا). الرحلة عند السيد اليوناني، طريقه الطويلة إلي (إيثاكا) قد تكون هي الهدف ولا شيء سواه، ولكن ليس هذا شأنك، علي ما أظن، مع (مدينة أين). فالطرق الكثيرة إليها لم تخدعك، فأنت تتبع إبرة بوصلة الأعماق مهما اهتزت، مهما ترنَّحت، فـ (كما للنهار أجنّةُ ظلامه، فالليالي لها شمسها) أيضا. الموسيقي التي سمعتها في زقاق بغدادي، ذات يوم، ظل صداها الفتي، صداها الذي لا يفتر له رنين، يتردد في أذنيك، وتلك التي رأيتها، وأنت تعبر تحت شرفة في ذلك الزقاق، ظللت تسترجع صورتها مع (كل وصول) و(كل مغادرة)، حتي رسي مركبك حيث ترسو جميع المراكب.
وداعا سركون.
يا صديقي وشبيهي في التيه، أنا مثلك بيدي جمرة تبرد، وفي أعماقي بوصلة مترنحة تشير إبرتها إلي فتي بشعر طويل يجلس علي برندة اسمنتية ويحلم بكنز في جزيرة بعيدة، فيما غبار الأيام يتراكم علي مشجب أم راحلة.