أقام الناصر محمد المنشاءات في شرقي الأردن تقديرا لاهلها لوقوفهم معه الى ان عاد الى السلطنة ، وخفف عليهم المكوس واختصها بالزيارة ، فبنى في الكرك مسجدا جامعا وحماما وخانا أوقفه للسبيل ، ومدرسة تدرس المذهب الشافعي ، وأقام الميدان ، وبنى بيمارستان ( مستشفى ) ، وبنى مسجدا على ضريح جعفر بن أبي طالب (الطيار) سنة 727هـ وجدد ضريح النبي هارون في وادي موسى في البتراء ، سنة 730هـ ، ومهد عقبة أيلة ( العقبة ) سنة 732هـ 1331م ، وكانت وعرة المسالك ، وأقام قيسارية التجار في عجلون وأقام الأسواق بها ، وبنى في الصلت ( السلط) المدرسة السيفية ، سنة 724هـ 1324م . وأمر بتعمير ما تهدم من السيل في عجلون سنة 728هـ ، واعتنى الناصر بمقامات الصحابة في الغور أبو عبيدة وشرحبيل ومعاذ . وفي سنة 717هـ 1317م زار حسبان في البلقاء . وأرسل الناصر محمد أولاده إلى الكرك ، التي اتخذ قلعتها مستودعا لأمواله وسلاحه ، فقد جعلها ميدانا لتدريب أولاده على الفروسية وأعمال الحرب والصيد ، ففي سنة 726هـ 1326م أرسل الأمير احمد اكبر أولاده إلى الكرك ، ثم أرسل ابنه الأمير إبراهيم بعد خمس سنوات ، ثم اردفهما بولديه أبي بكر ورمضان ، ولم يستدعي ابنه أبا بكر من الكرك إلا سنة 740هـ 1339م فأعده إلى القاهرة وولاه العهد ، وقلد الأمير احمد اكبر أبناءه إمارة الكرك ، وكانت الكرك تختص بالحرمين الشريفين .
وقرب الناصر محمد إليه أهالي شرقي الأردن ومنهم الشيخ العالم أبي العباس الحنبلي في مدينة حبراص شمالي اربد ، ويوسف الكيماوي الكركي ، الذي كان يشتغل في الكيمياء ، وقرب زعماء قبائل شرقي الأردن ومنهم بنو عقبة وبنو مهدي وبنو زهير .
وبعد وفاة الناصر محمد تولى السلطنة الملك المنصور أبو بكر بن الناصر محمد بن قلاوون في سنة 741هـ 1340م ، وتولى الأمير قوصون والأمير بشتاك تدبير الدولة . ولكن ما لبث الأمراء أن عزلوا المنصور سنة 742هـ ونفوه إلى الصعيد بزعامة قوصون وولوا مكانه أخاه الأصغر الأمير كجك ولقبوه بالأشرف وكان عمره خمس سنوات ، وتولى قوصون نيابة السلطنة ، وكان الأمير احمد اكبر أبناء الناصر مقيما بالكرك من سنة 726هـ 1326م .
وقد ثار الأمير احمد في الكرك لعزل المنصور ورفض مبايعة أخيه الأشرف كجك ، فأرسل قوصون خمسمائة فارس إلى الكرك لجلب الأمير احمد بالإكراه ، فقبض الأمير احمد على قائد الجيش طرغاي ووضعه في كفة المنجنيق لرميه فاعترف فأفرج عنه واعاده إلى مصر .وطالب أن يكون نائبا في الكرك كخطة أولية . ولكن قوصون قرر أخراجه من الكرك بالقوة ، وقد عارض قوصون واختيار السلطان الجديد نواب الشام في حلب وحماة وصفد ، فطلب الأمير احمد عونهم .
أمر المماليك بقتل الملك المنصور أبي بكر في منفاه ، فغضب أهل مصر وأهل الشام ، وجاء أمراء الشام ، وبايعوا الأمير احمد في الكرك سلطانا ولقبوه بالملك الناصر احمد . تيمنا باسم والده . فأسرعت قوات السلطان الناصر احمد من الكرك بقيادة قطلوبغا الفخري إلى دمشق وسيطرت عليها ودخلها باسم الناصر احمد ومعه قاضي الشافعية والحنفية وأصبح الفخري نائبا في دمشق وبايع الناس السلطان الناصر وخطب له على منابر دمشق سنة 742هـ 1341م وخطب له على منابر الكرك والقدس وغزة . وضربت السكة باسمه ، ووصلت قوات صفد وحماة وتكفل نائب غزة بمراقبة الطرق إلى مصر فانقطعت الأخبار عن قوصون .
وقد أصبحت الكرك عاصمة لدولة المماليك يباشر أمور السلطنة فيها الناصر احمد من الكرك وصارت الكتب السلطانية تخرج من الكرك ، وعليها توقيع " الملكي الناصري " .
وقد تمكن الأمير ايدغمش وأمراء القاهرة من القبض على قوصون ، وبايعت الديار المصرية للناصر احمد ولا يزال في الكرك ، وخطب له على منابر مصر ، وقام الخليفة العباسي أبو العباس احمد بن المستكفي بخلع السلطان الأشرف كجك ، وأرسل كتابا إلى الكرك يستدعي فيه الناصر احمد ليتولى السلطنة في مصر والشام .
وهكذا أصبح الناصر احمد سلطانا على مصر والشام وهو في الكرك بدعم من ايدغمش نائبه في القاهرة والفخري نائبه في دمشق ، ومن نيابات الشام كلها ومماليكه ومماليك أبيه وعربان شرقي الأردن والشام وأهل مصر ، فقد اجتمع رسل القاهرة ودمشق في الكرك لتسليم الناصر احمد زمام السلطنة رسميا ، وطلب كل فريق من السلطان أن ينزل إليهم فأبى لكثرة ما عاناه من تقلب الأمراء خائفا من المكيدة ، فلم ينزل إلا بعد أن تأكد من اعتقال قوصون وأتباعه في القاهرة .
وقرر السلطان الخروج من الكرك إلى القاهرة ، وتحرك معه أمراء الشام ومصر والكرك والقضاة الأربعة ، وتحرك معه عدد من أتباعه الكركيين ، فوصل قلعة الجبل في سنة 742هـ 1342م ، وجلس ينتظر وصول الشاميين ، فبويع الناصر احمد بالسلطنة بجناحيها مصر والشام ، ولكن الأمراء الأربعة طشتمر والفخري وطقزدمر وايدغمش استبدوا بالأمور دون السلطان ، فاضطر لتفويض الأمور إليهم واحتجب عن سائر الناس ، ثم وزع النيابات لمحاولة تفريقهم فأعطى الفخري دمشق وايدغمش حلب وطشتمر مصر ، ثم قام بعملية تطهير للأمراء فأصدر أمره باعتقال طشتمر واعتقال ولديه ومصادرة أملاكه ، وأرسل وراء الفخري للقبض عليه في الطريق إلى دمشق ، إلا انه هرب منهم إلى ايدغمش إذ لحقه ببيسان فاعتقله وحبسه في الكرك ، ثم اخرج السلطان الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي إلى نيابة صفد والأمير سيف الدين الحاج إلى نيابة حماة ، وأرسل 21 أميرا إلى سجن الإسكندرية ، فلما فعل ذلك بالأمراء هابه الناس وعادت مكانته .
ولكن الناصر احمد لم يطمئن للمماليك في مصر ، فوثق فقط بخاصته من أهالي الكرك وشرقي الأردن ، فكان لا ياكل طعاما ما لم يتذوقه يوسف بن النصال وأبو بكر البازدار الكركيان .
ثم قرر السلطان احمد نقل عاصمة دولة المماليك من القاهرة إلى الكرك ، فحمل شعائر السلطنة ، والأرزاق والمؤن والدواب والأغنام والبقر والخيول والذخائر من الذهب والفضة والجواهر والتحف والآلات والعدد والنحاس والأمتعة والقماش وأمر بحمل هذه الذخائر إلى الكرك ، بصحبة الأمير طيبغا المحمدي في ذي القعدة 742هـ ، ثم جمع كبار المماليك وأفصح لهم نيته الرحيل إلى الكرك لبعض الوقت ، وعهد إلى آقسنقر السلاري بنيابة القاهرة وتدبير أمور السلطنة في غيابه .
وفي الثاني من ذي الحجة سنة 742هـ غادر القاهرة إلى الكرك ، وبرفقته الخليفة العباسي الحاكم بأمر الله احمد ، وجمال الكفاة ناظر الجيش والخاص ، والقاضي علاء الدين كاتب السر ، وبعد أن سار فترة خلع ثيابه ولبس ثياب أهل الكرك ، وهي كاملية مفرجة وعمامة بلثامين ، ثم صحب الكركيين وركب الهجن ورحل معهم إلى الكرك ، بعد أن طلب من الخليفة والأمراء أن يسيروا مع المماليك السلطانية للحاق به إلى الكرك ، وقبل وصولهم عاد وكلفهم بمهمات ووزعهم على البلاد فوجه الأمير المقدم عنبر إلى الخليل ، ومعه المماليك السلطانية ، وسير الأمير قماري شكار ومعه بعض الأمراء ، ومعهم الخليفة إلى القدس ، ثم توجه إلى الكرك فدخلها في 9 ذي الحجة 742هـ 17 أيار 1341م بصحبة خواصه الكركيين وناظر الجيش وكاتب السر ومملوكين فقط ، والأميران طشتمر والفخري مقيدين .
وأصبحت الكرك عاصمة لدولة المماليك بدلا من القاهرة ، وكانت مراسيم السلطان تصدر عن الكرك نافذة لجميع أنحاء دولته ، وشرع بتحصين الكرك .
ولكن نقل العاصمة من القاهرة لم تعجب الأمراء في القاهرة ، فاجمعوا على قتل نائبه في مصر آقسنقر السلاري ، وكتبوا للسلطان الناصر احمد بالكرك يسألونه الحضور إلى القاهرة في سنة 743هـ 1342م فرد عليهم قائلا : " إن الشام ملكي ، وديار مصر ملكي ، والكرك ملكي ، وان أي مكان خطر لي أقمت فيه ، وانتم ما انتم مكلفون إلى حضوري ولا أنا تحت حجركم ، ومتى خطر لي جيت ، وقد أقمت نايبا وحاجبا ووزيرا يقضوا أشغال الناس ، ... ومن تكلم فيما لا يعنيه قتلته ، وترسلوا تعرفونني من هو الذي تحدث في هذا الأمر " . فاجمع الأمراء على مناوأته ، وأرسلوا إلى أمراء الشام يستشيرونهم ، فاتفق رأي الشاميين على خلعه .
اما في الكرك فإمعانا في الحيطة قتل السلطان الأميرين طشتمر والفخري ، فيما جاء رد الشاميين قرر المصريون من الأمراء خلع السلطان ، فاختاروا أخاه إسماعيل ، وبايعوه بالسلطنة في محرم 743هـ حزيران 1342م ، وحلفوا له ولقبوه بالملك الصالح عماد الدين إسماعيل ، فكانت مدة ولاية الناصر احمد ثلاثة اشهر وثلاثة عشر يوما ، أقام منها في الكرك وجعلها عاصمة للدولة واحد وخمسون يوما .
وقد رفض السلطان احمد هذا الإجراء وجمع أهالي شرقي الأردن الكرك والشراة ومؤاب والقبائل العربية ، فأرسل إليه السلطان الجديد أن يرسل شعار السلطنة ( القبة والطير والغاشية والنمجاة ) وفوض الناصر احمد أمر الكرك والشوبك ، فلما رفض اخذوا يرسلوا التجريدات لغزو الكرك وحصار الناصر احمد فأرسلوا تسع تجريدات من عسكر الشام ومصر مجتمعين ، فشلت منها ثمانية في إخضاع الكرك ، اما في التاسعة فقد تعب المحاصرون وملوا وفتر حماسهم للناصر احمد ، فتبادل المحاصرون والقوات المحاصرة الرسائل والمكاتبات ، فاتفق أهل الكرك على التسليم بالأمان من السلطان الصالح إسماعيل ، ثم هاجمت القوات القلعة وتظاهر الناس بالهزيمة وتركوا أبواب القلعة مشرعة فدخلها المهاجمون بعد عناء في 23 صفر 745هـ 60تموز 1344م ، وتسلم القلعة الأمير سيف الدين قبلاي نائبا فيها ، فسجنوا الناصر احمد في القلعة بعد قتل وحصار استمر سنتين وشهر ، وأرسلوا إلى الناصر احمد من يخنقه في سجنه بالكرك ، في 4 ربيه الأول 745هـ 17 تموز 1344م ، وقطع رأسه وحمله في علبة وقدمه إلى السلطان الصالح إسماعيل ، وكان ضخما مهولا طويل الشعر ، فاقشعر السلطان من منظره ، وأصابه الصرع واخذ شبح أخيه يتراءى في اليقظة والنوم ، وبقي كذلك إلى أن توفي . إلا انه قبل موته قرر الذهاب للحج سنة 746هـ إلا أن حالته الصحية لم تسمح فأبطل الحج ، وزادت علته وتوفي في ربيع الآخر 746هـ آب 1345م .
ولى الأمراء بعد السلطان الصالح إسماعيل أخيه سيف الدين شعبان ولقبوه الملك الكامل ، وفي 747هـ 1346م عزم السلطان على الحج ، رغم صعوبة الحال والأمحال ، فأعلن الأمراء معارضتهم له ، وحاربوه ، فاختفى في الدور السلطانية عند أمه ، فاعتقلوه وسجنوه ، فاجمع الأمراء على تنصيب أخيه الأمير حاجبي سلطانا مكانه ولقبوه بالملك المظفر زين الدين حاجبي ، وبايعوه بالسلطنة في جمادى الآخرة 747هـ 1346م وكان عمره 15 سنة ، ثم قتلوا الملك الكامل شعبان في سجنه ، وأصبح السلاطين بأيدي الأمراء ألعوبة ودمية ، وترك الأمر لنواب السلطنة ، ففي 12 رمضان 748هـ 1347م القوا القبض على السلطان الجديد مظفر وذبحوه وقطعوه قطعا ، ونصبوا أخيه الأمير حسن سلطانا . ولقب بالملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون ، وكان عمره 11 سنة ، وفي بداية سلطنته عم بلاء الطاعون الديار المصرية والشامية ، وقد حدثت خلافات بين الأمراء والسلطان حسن ، ففي شوال 751هـ 1350م خرج نائب السلطنة إلى الحج ، فاستغل السلطان الناصر حسن غيابه وألقى القبض على أخيه ، وأغرى عرب شطي وبني عقبة في الكرك ، وبني مهدي في البلقاء بالقيام مع الأمير فضل بن عيسى بن مهنا إلى مدينة العقبة ، وأمر الجميع القبض على نائب السلطنة بيبغاروس عند عودته من الحج في العقبة ، وإرساله إلى سجن الكرك ، فاتفق الأمراء في مصر سنة 752هـ 1351م على خلع السلطان الناصر حسن ، فخلعوه وولوا مكانه أخيه الملك الصالح صالح بن الناصر بن محمد بن قلاوون ، في سنة 752هـ فأحسن هذا السلطان معاملة أخيه السلطان السابق .
ولكن الأمراء خلعوا الصالح صالح وولوا أخيه السلطان السابق الناصر حسن أعادوه سنة 755هـ 1354م ثم اختلف الأمراء مع السلطان وحاولوا القبض فقاتلوه وحالوا القبض عليه حين كان يهم بالفرار إلى الكرك على هجن أعدها . فسجن وقتل . ثم ولوا الأمير محمد بن المظفر حاجي وبايعوه بالسلطنة في جمادى الأولى 762هـ آذار 1661م ولقبوه بالملك المنصور ، وهو أول من تسلطن من أحفاد الملك الناصر بن محمد بن قلاوون . وفي عهده وقعت الفتن بين الفلاحين في قرى عجلون ، وانقسموا إلى طائفتين قيس ويمن وعمت الحرب شرقي الأردن وقتل اعدد كبيرة منهم ، حتى أن قرية عين جنة دمرت وقطعت أشجارها ، ثم أرسل السلطان من أصلحهم معا .
ولكن الأمراء قرروا خلع السلطان في شعبان 764هـ أيار 1636م ، وأقاموا مكانه ابن عمه الملك الأشرف شعبان بن حسين في العاشرة من عمره . وتعرضت البلاد لغزو القبارصة في سنة 767هـ 1365م ووقع خلاف بين السلطان والأمير يلبغا فسجن يلبغا ثم قتله المماليك فحاول مماليكه الانتقام فاعتقلوا وحبس بعضهم في سجن الكرك ، ومنهم ، برقوق وبركة والطنبغا والجوباني وجركس الخليل واقبغا .
وفي سنة 770هـ 1368م تعرضت شرقي الأردن للجراد بإعداد هائلة الذي أتى على محاصيلها الزراعية . وقد أوقفت أوقافا من شرقي الأردن على مدرسة الأشرف شعبان في القاهرة سنة 777هـ 1375م منها قرية ادر وبستان وحمام بوادي الكرك .
وفي سنة 778هـ 1377م أرسل السلطان الأشرف شعبان أخوته وبني أعمامه إلى الكرك إلى أن يعود من الحج في ذلك العام ، خوفا من أن يثب احدهم إلى عرش السلطنة في غيابه ، وطلب السلطان من نائب الكرك إرسال بسط وفرش إلى القاهرة من صنع الكرك .
ولكن الأمراء الذين صحبوا الأشرف شعبان إلى الحج قرروا الإطاحة به ، فحاولوا قتله في العقبة إلا انه فر إلى القاهرة وأبطلت رحلة الحج وتشتت الركب ، فعزله الأمراء ونصبوا ابنه علي . في سنة 778هـ فتمكنت طائفة من المماليك الأجلاب من السيطرة على الحكم وانتهت دولة المماليك الأولى. فقد أتاح السلطان المنصور علي لهم فرصة السيطرة على الدولة ، ى ومن بين الذين قفزوا إلى صفوف الأمراء الكبار برقوق العثماني سنة 779هـ 1378م وقد كان سابقا مسجونا في الكرك خمس سنوات . قبل أن يفرج عنه الأشرف شعبان .
وقد تمكن برقوق من الوصول إلى سدة الحكم مؤسسا بذلك دولة المماليك الجراكسة .