إدواردو غاليانو يقدّم كتابه الأخير 'أبناء الأيّام' في غرناطة
22-05-2012 06:35 AM
عمون - - من محمّد محمّد الخطّابي: الكاتب الأوروغوائي إدواردو غاليانو، المثير للجدل، العنيد المشاكس أبدا، قدّم بتاريخ 16 أيار/مايو 2012 بمدينة غرناطة آخر كتبه'أبناء الأيّام'، التي تعتبر المحطّة الثالثة للكاتب بعد برشلونة وقرطبة للجلوس أمام جمهوره الغفير بمناسبة صدورهذا الكتاب الجديد (عن دار النشرالقرن الواحد والعشرين، إسبانيا، الأرجنتين المكسيك) الذي لابد أن يثير ردود فعل متباينة كما هو الشأن مع كتبه السابقة التي يدين فيها ما يسمّيه بـ (الغزو) نابذا مصطلح (الإكتشاف) الذي يحلو للإسبان استعماله عند حديثهم عن الوجود الإسباني والبرتغالي فيما أطلق عليه فيما بعد بالعالم الجديد.
يقول إدواردو غاليانو خلال هذا التقديم: 'إنّ 'أبناء الأيّام'يأتي إنطلاقا من شهادات ناطقة حيّة من أفواه أبناء المايا في غواتيمالا منذ أربع سنوات خلت، هذه الشهادات هي التي يتضمّنها هذا الكتاب بين دفتيه اليوم. ويضيف أنّ المايا يعتقدون اعتقادا راسخا أنّنا أبناء الأيّام، أبناء الزمن، وفي كل يوم تتولّد القصص والحكايات المتواترة، ذلك أنّ الكائن البشري مصنوع من الذرّات، ولكنّه صيغ كذلك من القصص والحكايات'.
هذا الكتاب يحكي لنا قصصا وقعت على إمتداد التاريخ والأحقاب في مختلف أنحاء العالم. يشير غاليانو أنه يجد تشابها وتقاربا بين كتابه الجديد وكتاب آخر له صدر منذ بضعة أعوام وهو بعنوان 'مرايا'حيث يقوم الكاتب بمراقبة العالم ورصده'. أنّه أمر مماثل أن ترمق وتراقب العالم من ثقب قفل، أو أن تحكي قصصا عظيمة انطلاقا من حكايات بسيطة وصغيرة، أو كما يمكن أن يقول أكثر من شاعر بواسطة الحكايات اليومية المتواترة، أو بواسطة هؤلاء الذين يطلق عليهم الأبطال المجهولون.
من الماضي إلى الحاضر
كتاب غاليانو رحلة يومية مثيرة من الماضي إلى الحاضرعلى إمتداد 365 يوما من أيام العام، كل حكاية أو قصة تتضمّن رسائل نافذة، ونقدا لاذعا للمجتمع الحالي الذي نعيشه، هذه الرسائل تسافر عبر الزمن حتى تصل إلى الحاضر.
لماذا اختار غاليانو هذا العنوان لكتابه الجديد، يقول إن شعب المايا في غواتيمالا هو الشعب الوحيد الذي يعتبر الزمن فضاء حيث الأيام هي التي تصنع أو تشكّل الأشخاص، ومن هؤلاء تتولد القصص والحكايات، لان الإنسان هو إبن تاريخه أو حكاياته.
هذا كتاب إدانة صارخة للعصرالحاضرالذي نعيشه على مضض، إنها نظرة أو تشريح للواقع المرّ، إنه يوجّه إنتقادا شديدا للنظام العالمي الحالي الذي يحافظ ويذود عن المصالح المالية والإقتصادية، ولكنه لا يتورّع عن إلحاق الأذى بالطبيعة وإتلافها، 'يقول: 'إنهم يتحدّثون عن كوارث طبيعية كما لو أنّ الطبيعة قد أصبحت جلادا' وليس ضحيتهم إنهم لا يحافظون عليها بل يسلبونها حقوقها. وعن النظام المالي يقول: 'المصرفيون في حرب ضد التضخّم المالي، أمّا انا فقد أعلنت الحرب ضد التضخّم الكلامي' وفي مجال حديثه عن الإرهاب يقول 'إن الذين ينبغي إدانتهم هم هؤلاء الذين يخطفون بلدانا، الذين يتنهكون حرمة الأرض، لصوص الفضاء، الذين يتاجرون بالخوف'. وإنتقد الدكتاتوريات التى عاشتها بلاده.
في هذا الكتاب نلتقي مع العديد من تعابيره المعهودة. إنّه يذكّرنا: 'لو كانت الطبيعة مصرفا أو بنكا لكانوا قد عملوا على إنقاذها'، كما يحفل هذا الكتاب مثل كتبه السابقة بالسخرية المرّة والتهكّم اللاذع من الولايات المتحدة الأمريكية. حيث كانوا يعتبرون 'نيلسون مانديلا' إرهابيا، وفي فاتح يوليو 2008 تمّ شطب إسمه من قائمة الإرهابيين التي ظل فيها 60 عاما.
كتاب 'أبناء الأيّام' يعيد طرح إشكالية التفكير في العالم والإختلال أو المعضلات التي يعيشها بشكل معاكس أو بطريقة تقهقرية. وهو يقدّم قصصا قصيرة وحكايات كبرى لكل يوم من أيام الحول. إنه في هذا السرد الحكواتي المتواتر، بقدر ما يدنو فيه من القارئ، فإنّه في الوقت ذاته ينأى ويفرّ ممّا يسمّيه أو يطلق عليه: بالتضخّم الكلامي.
أوديسا الفضاء
من الفقرات التي تواجهنا في هذا الكتاب: وتمضي الأيام، الأيام التي صنعتنا، هكذا ولدنا، كأبناءالأيّام، االلاهثون دائما وراء الحقيقة، الباحثون عن الحياة.
22 مارس: يوم الماء، نحن من الماء، من الماء كانت الحياة، الأنهار دم يروي الأرض، هذه الأنهار مصنوعة من ماء زلال، إنّها خلايا عديمة التفكير، إنّها الدموع التي تجعلنا نبكي، وهي الذاكرة التي نتذكّر بها، والتي تخبرنا أنّ صحارى اليوم، كانت بالأمس غابات وأدغالا، والعالم الجاف تحوّل إلى عالم مبلل، في ذلك الزمن الغابر الذي لم يكن فيه لا الماء ولا الأرض ملكا لأحد بل كانا ملكا للجميع، من ذا الذي استحوذ على الماء ؟ القرد ذو الهراوة، القرد الأعزل مات بضربة واحدة، إذا لم تخنّي الذاكرة فإن فيلم 2001 أوديسة الفضاء هكذا يبدأ، في 2009 اكتشفت مركبة فضائية الماء في القمر، هذا الخبر عجّل بمخطّطات الاكتشاف، مسكين أنت أيها القمر.
وهكذا يستمرّ الكاتب في تسجيل انطباعاته وملاحظاته اللاذعة على امتداد توالي الأيّام وانصرامها أمام أعيننا وذاكراتنا كالسّيل العارم، والآتيّ المنهمر، وهكذا يضع غاليانو نصب أعيننا لوحات وأحداثا، وأمثالا ووقائع، وتوابع وزوابع، وكوارث وأهوالا، عاشتها البشرية في تتابع مسترسل،
وفي مواقع اخرى من الكتاب نقرأ:المفقودون، إنهم أموات بلا مقابر، أو مقابر بلا أسماء، نساء ورجال إبتلعهم الرّعب، الأطفال الذين إستعملوا أو هم رهينة حروب، وكذلك الغابات الأم، ونجوم ليالي المدن والحواضر، وعطر الزهور، وطعم الفواكه، والرسائل المكتوبة بخطّ اليد، والمقاهي العتيقة حيث ينساب الزمان في سكون، ولعب الكرة في الأزقّة والشوارع، وحق المشي، وحق استنشاق الهواء الطلق،، والدور بدون سيّاج، والأبواب بدون أقفال، والشعور بالإنتماء، والفطرة الأولى.
يعتبر بعض النقاد هذا الكتاب امتدادا لكتب غاليانو السابقة وتجسيما لمواقفه من العديد من القضايا التاريخية، والاجتماعية، والإنسانية، والسياسية، التي ينفرد بمعالجتها بأسلوبه الخاص، وبقدر كبير من الجرأة والمواجهة والتحدّي. هذا الكتاب يتضمّن قدرا باهظا من هذه الشحنة الناقمة التي يصبّ فيها وبها الكاتب جامّ غضبه على هؤلاء الذين ينظرون إلى العالم من ثقب الباب، حيث لا يتراءى لهم منه سوى ما يروقهم، أو ما يحلو لهم مشاهدته ورؤيته فيه. في هذا الكتاب تندّ نسائم الحريّة والانعتاق، وتفوح رائحة البحث المضني عن الحريّات والعدالة وحقوق الطبيعة والبشر. ففيه نلتقي ليس فقط مع أمّنا الأولى 'حوّاء' او مع أبينا 'آدم' بل نلتقي وجها لوجه مع 'باراك أوباما'، أو مع 'الحركات الشبابية الغاضبة' في إسبانيا التي يقدّم غاليانو لها دعمه ومساندته بحماس منقطع النظير، في هذا السرد الحكواتي المتواتر، بقدر ما يدنو فيه الكاتب من القارئ فإنّه في الوقت ذاته ينأى ويفرّ ممّا يسمّيه أو يطلق عليه: بالتضخّم الكلامي.
تعلّم إعمال النظر
لإدواردوغاليانو كتاب آخر تحت عنوان 'مذكرات الناّر' وهي ثلاثية قيّمة حول أمريكا الجنوبية يتساءل الكاتب فيها عن بعض المصادفات الغريبة والمحيّرة التي تمرّ بالإنسان، ويسوق مثالا لذلك فيقول: كيف يمكن تفسير أنّ ثلاثة من المتمرّدين الأمريكيين الجنوبيين الذين أصبحوا يشكّلون نوعا من الأسطورة في حياة وأدب أمريكا اللاتينية وهم: 'ساباطا' وساندينو' و'غيفارا' جمعهم مصير واحد، فالثلاثة ماتوا في سنّ 39 سنة، الثلاثة ماتوا على إثر خيانة، والثلاثة ماتوا في كمين نصب لهم.
وعن إعمال النظر في الأمور والتمعّن فيها يورد غاليانو قصة طريفة يقول إنها أثّرت فيه تأثيرا بليغا، وهي عندما قرأ استجوابا للكاتب الأمريكي الأسود اللون 'جيمس بالدوين' الذي يحكي أنه حتى سنّ التاسعة عشرة من عمره لم يكن يعرف كيف يرى الأمور على حقيقتها على الرغم أنه كان سليم النظر، وأنّ صديقا رسّاما له هو الذي علّمه كيف يرى، ففى عام 1944 عندما كانا يسيران في بعض شوارع نيويورك، ووصلا إلى ركن من أركان الشارع توقّفا عن السير وبدأ الصديق الرسّام يشير بيده إلى غمر من الماء بجوار الرصيف وهو يقول له: أنظر، ويحكي بالدوين أنّه نظر في البداية فلم ير شيئا، رأى غمرا من الماء ليس إلا، وعاد الرسام ليلحّ عليه فقال له من جديد أنظر، أنظر وعاود النظر وهذه المرّة رأى شيئا لم يتراء له من قبل، رأى بقعة من الزيت داخل الغمر، وعندما ركّز نظره أكثر وبمزيد من التمعّن، مع إلحاح الصديق في أن ينظر وينظر، فبالإضافة إلى قوس قزح المنعكس في الغمر رأى كذلك أشياء كثيرة أخرى، رأى أناسا يمشون، المارّة، الحمقى، العمّال، السود، الذين يقطعون الطريق كل يوم ولم يتوقّفوا قط للنظر مثلما فعل هو، وبعد أن زاد تحديقه رأى المدينة بأكملها، ورأى الكون داخل ذلك الغمر الحقير الذي يوجد في ركن قصيّ من أركان جزيرة منهاتن، وكان ذلك اليوم هو اليوم الذي تعلّم فيه أن يرى.. ويشيرغاليانو معلقا على هذه الحكاية: 'إنّ الفنّ الحقيقي هو الذي يساعدنا على إعمال النظر، وعلى فتح نوافذ جديدة أمامنا'.
الحكاية الأخرى التي يوردها غاليانو في كتابه في نفس السياق تقول: أن صديقا له لم يكن قد رأى البحر قطّ في حياته لأنه من داخل الأروغواي، فأخذه أبوه ذات يوم لمشاهدة البحر وليعرف البحر لأوّل مرّة، كان صديقه لم يتجاوز السابعة من عمره، كان أوّل ما انتهى إليه من البحر نسماته ثمّ هديره، وعندما رأى البحر في ملكوته ووسعه وروعته لم يستطع أن يتمالك نفسه أمام جلال المفاجأة، فصاح في والده: يا أبتي ساعدني على النظر. فما أجمل أن نساعد على فهم الحياة أي ان نساعد على فتح نوافذ جديدة في منطقة ما من العالم وهي أمريكا اللاتينية التي طالما نظر إليها بغير قليل من الإزدراء'.
من وحي الاكتشاف
القصص التي يسوقها غاليانو في كتابه 'مذكرات النار' عن تاريخ أمريكا اللاتينية هي قصص حقيقية، وهي تتضمّن قيما رمزية عميقة أنها تكشف النقاب عن أشياء لا تخلو من أهمية، ويضرب الكاتب كمثال بواحدة من هذه القصص المروّعة من تاريخ هذه الجهة النائية من العالم عندما أقيم عام 1496 أوّل 'مكان للحرق 'في أمريكا اللاتينية في 'هايتي' إنه منذ اكتشاف أمريكا لاول مرّة يعاقب إنسان في هذه القارة بالقتل حرقا، إن القاتل (العشماوي) هو 'بارطولومي كولومبوس' أخو كريستوفر البحّار، الضحايا الذين إشتعلت أجسامهم حرقا وهم أحياء هم ستة من الهنود، ويشير الكاتب أن هذا الإعدام، أو هذه التضحية تجسّم لنا كل شيء ليس فقط تصادم حضارتين بل وأكثر من ذلك هو أن اكبر خطأ لما يطلق عليه اكتشاف أمريكا هو عدم إكتشاف شيء، لأنّ 'كولومبوس' مات مقتنعا أنه كان في اليابان كما يعرف الجميع. أي في ظهر آسيا. إنّ الأوروبيين الذين قدموا إلى امريكا كانت لهم عيون لمشاهدة الحقيقة التي وجدوها إلا أنهم مثل حالة' بالدوين' كانوا عاجزين عن اكتشافها، إنّ نظرتهم كانت شبيهة بنظرة بالدوين الأولى للغمر. إنّ دأب هؤلاء كان هو السلب والنهب المنظمين، وإلحاق الأذى والضرر ببلدان أخرى، إن الغازي يقول غاليانو: وصل لإنقاذ الذي وقع عليه الغزو من ظلام الوثنية، إلا أنه في الأخير هو الذي وقع بين مخالب الوثنية الحقيقية، فما هو الذنب الفظيع الذي ارتكبه هؤلاء الهنود الستة ليلقي بهم بارطولومي كولومبوس في النار أحياء؟
في ذكرى الهندي الملتحي
يشير غاليانو: 'أنه ليس عيبا أن يحتفى باكتشاف أمريكا ولكن ليس من أجل تكريم الملوك الكاثوليك الإسبان الذين أنشأوا محاكم التفتيش والتعذيب والتنكيل المعروفين بعدم التسامح والجهل بل فليكن هذا الاحتفال تكريما لبعض التقاليد الأمريكية القديمة جدّا، وقيم وعوائد الأمم التي عشقت الحرية، وتعلقت بالشرف والكرامة وهامت بالطبيعة، إن سكان هذه المناطق من العالم كانوا يعيشون ويعملون جماعات فيما بينهم قبل أن يحدث ' الاكتشاف' الذي جاء ولقّنهم الأنانية والأثرة والتشرذ م، وحق الملكية، والجشع، وروائع أخرى، أو أن يكون إحتفالا بهؤلاء الذين جاءوا فاتحين مثل حالة البحّار 'غونسالو غيرّيرو' الذي ظل تائها في أرض 'المايا' ثم سرعان ما انخرط في مجتمع الهنود وتزوّج منهم وكان له أولاد، وعندما علم 'إيرنان كورتيس' بقصة ذلك البحّار طلب منه الحضور فرفض، وآثر أن يظل مع أهله الجدد وعائلته وأولاده، ولما كان عام 1536وبعد معركة طويلة بين هنود المايا والغزاة، وبين العشرات من الجثث ظهر هندي ملتح، هندي ذو جلد أبيض، وقد شقّت جبينه رصاصة، لقد كان 'غونسالو غيرّيرو' الذي آثر أن يسقط مع من ارتاح إليهم واحسنوا وفادته، هذا الرجل هو أوّل غاز تمّ غزوه، وكان هناك آخرون ظلوا في غياهب المجهول.
ويحكي لنا غاليانو برمزية عميقة كيف أن البطل الأسطوري'بانشو فييّا' كان اسمه الحقيقي هو 'دوراتيو أرانغو' وبانشو كان اسم أعزّ اصدقائه، وعندما قتل الحرس المدني صديقه الذي كان ينتمي إلى شلّة ' أرانغو'إتّخذ لنفسه اسم صديقه أيّ الاسم الذي هوى، وأصبح اسمه 'بانشو فييّا' لكي لا يموت اسم صديقه أبدا، إنه نوع من مصارعة الموت ضد النسيان الذي يعتبر الموت الوحيد الذي يقتل حقيقة. وهكذا ظل اسم صديقه حيّا في شخصه تردّده أمريكا اللاتينية حتى الآن. (القدس العربي)