ان شيخ التاريخ ليقهقه وتهتزّ لحيته البيضاء من ركام الثرثرات عن " الكيان المصطنَع" الذي تتصلّب صلابته الوطنية بينما تنوء الدول القومية بشرعيتها والدول النفطية بثرواتها بتشققاتها.
لم يكن ذلك بسبب السياسات الرسمية التي عملت, بكل طاقتها, على ارتكاب الاخطاء والخطايا واختيار نهج انتحاري يقوم على تفكيك الدولة والمجتمع, بل بالضدّ منها. الفضل يعود, حصريا, إلى تطابق الدولة والوطنية الاردنية, تطابقا عضويا من حيث التاريخ المحلي والجغرافيا السياسية والتركيب الاجتماعي الثقافي للجماعة الوطنية الاردنية.
منذ تأسيسها, لم تحظ الدولة الاردنية بالفرصة المتاحة اليوم; يمكنها إعادة ترتيب أوراقها الداخلية بمنأى عن الضغوط, وانتزاع مكانتها الاقليمية بوصفها الدولة الوطنية الاكثر جدارة في المنطقة العربية.
دعونا نلاحظ ما يلي:
لم يسبق أن كانت الولايات المتحدة في حالة من الوهن والشلل كما هي اليوم. فهي غارقة في أزمتها الاقتصادية المتصاعدة, وتدبّر آثار هزيمتها في العراق, وظهور التحدي الاستراتيجي الروسي في سورية, وتنامي التحدّي الاقتصادي الصيني وصعود دول البريكس في مقابل التردي الاوروبي.
ربما تقلق نخبة الحكم من وهن الحليف الامريكي, لكن, بالنسبة للدولة الاردنية, تكمن الفرصة في الغياب الامريكي بالذات. صحيح أن هذا الغياب يمنح الاسرائيليين أيضا الفرصة المواتية لجنون غير منضبط, لكن يوازنه الرد الايراني العنيف الممكن. ما يبقى تصعيد سياسي ينبغي امتلاك الجرأة للرد عليه بتصعيد مماثل.
العامل الفلسطيني لم يعد يشكل عنصرا ضاغطا على الدولة الاردنية; " السلطة" تتنفس عبر عمان, و"حماس" خرجت من المعادلة.
حلف الاعتدال العربي في وضع الانهيار; مصر في حالة فوضى مديدة والسعودية في حالة قلق داخلي وحصار من التحدي البحريني والتحدي اليمني.
المشروع القَطري الاخواني الذي علت أمواجه في المغرب وتونس وليبيا ومصر وسورية, ذلك المشروع, بكل هيلمانه الاقليمي الدولي, انكسر في المحافظات الاردنية, ربما من دون أن يلاحظ كاسروه أنهم يخوضون صراعا إقليميا ودوليا!
دمشق وبغداد تحتاجان عمان اليوم; الاولى لتأمين حدودها الجنوبية, والثانية لتأمين ضبط المنطقة الغربية المتمردة بدعم سعودي. وهو وضع يتيح للأردن تنويع خياراته الاستراتيجية, فيخرج مستقلا وقويا. بوضوح, أقصد ولوج البوابتين, السورية والعراقية, نحو إيران. ولن يكون هنالك ثمن باهظ للقرار بحرية الحركة: طهران, موسكو, وبكين.
لكن تنويع الخيارات الاستراتيجية غير ممكن من دون الوقوف على أرض صلبة; فهناك أربعة ملفات داخلية لم يعد ممكنا تأجيلها: (1) تصفية قضايا الفساد والخصخصة والهدر, ليس بطيها المستحيل, وإنما بإعلان الحقائق واسترداد المنهوبات, (2) الحل الجذري لمشكلة المواطنة في قانون جديد موحد المعايير للجنسية الاردنية, والتوافق مع منظمة التحرير الفلسطينية على تصفية متعلقات فك الارتباط مع الضفة الغربية, (3) الاعلان الصريح عن إفلاس النهج النيوليبرالي والشروع في إعادة بناء القطاع العام كجزء من عملية تنموية شاملة, وطنية وديموقراطية ومحلية, (4) تصميم وتنفيذ خطة وطنية ذات مضمون اجتماعي للإصلاح المالي.
الفرصة المتاحة للدولة الاردنية - وهي مؤقتة بظروفها الراهنة طبعا أهمّ وأشمل وأعمق من تبديدها بلعبة انتخابات نيابية بائسة - وتحمل, رغم ذلك, مخاطر تفجيرية - أو بالبحث عن حل جزئي للأزمة المالية بالخضوع الامتثالي لصندوق النقد الدولي والدخول في نفق السجال حول الدعم ونسبه وتوجيهه إلى مستحقيه الخ من السذاجات قصيرة النظر وسواليف حكومات الموظفين.
يتمتع الاردن اليوم بفرصة استراتيجية.. وهي تحتاج إلى رؤى وقرارات ونخب توازي حجم الفرصة وتاريخيتها.
العرب اليوم