قراءة في كتاب نافذة على الأمس
17-05-2012 05:09 PM
إعداد: د. حسن عبدالله العايد
Hasanayed2@yahoo.com
جمعه وترجمه د.فوزي قاسم ابودنه /كلية الآثار و د.ممدوح عايد العنزي رئيسا قسم اللغة الانجليزية وآدابها / جامعة الحسين بن طلال والصادر عن وزارة الثقافة 2012عمان.
أدب الرحلات: هو ذلك الأدب الذي يصور فيه الكاتب ما جرى له من أحداث، وما صادفه من أمور أثناء رحلةٍ قام بها إلى أحد البلدان. دوّن الرحالة في مذكراتهم أخباراً ومشاهد وأوصافاً وتعليقات وملاحظات موجزة، ثم عمدوا إلى تهذيبها وصوغها بأسلوب جميل، إما في أوقات الراحة أثناء السفر، وإما بعد الرجوع من السفر.
يُعدُّ أدب الرحلات من أهم المصادر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية؛ لأن الكاتب يستقي المعلومات والحقائق من المشاهد الحية، والتصوير المباشر، مما يجعل قراءته مفيدة وممتعة ومسلية.
ومن ضمن هذه الرحلات ما وثقته الأديبه الانجليزي (جيرترود بيل) من صور ورسائل. وقد جمعه وترجمه د.فوزي قاسم ابودنه و د.ممدوح عايد العنزي وهما من جامعة الحسين بن طلال الأول يعمل في كلية الآثار والثاني يعمل رئيسا لقسم اللغة الانجليزية وآدابها. ولقد قام الزملاء بتقديم كتاب " نافذ عن الأمس " من خلال تزويد القراء بمشاهد لم نعهدها من قبل وتعد كشفا ثمينا لنا هذه الأيام. فالكتاب يعد من حيث التصنيف من كتب أدب الرحلات وهذا النوع من الكتب التي أخذت من مشاهدات حية للكاتبة( جيرترود بيل ) في الأردن و البلاد العربية المجاورة , ولكن الزملاء أحسنا صنعا بترجمة ما كتبته عن الأردن تحديدا من خلال مجموعة الرسائل التي كانت ترسلها إلى والدها وزوجته.
جاء في مقدمة الكتاب: لقد كان الشرق دوما، بثقافاته وصحرائه، مقصداً للرحالة والمستكشفين الغربيين و الأوروبيين على وجه الخصوص ، تفتحت عيون المستكشفين وبدأوا بشد الرحال إلى بلاد المشرق العربي. وليس أدل على ذلك من رحلة السويسري (بيركهاردت) إلى البتراء في عام 1812 ونجاحه في استكشاف المدينة التي كان محظورا على الأجانب دخولها، وما أن انتشرت أخبار تلك الرحلة في أوروبا حتى قام عشرات المستكشفين بشد الرحال إلى الشرق خلال القرن التاسع عشر وفي مطلع القرن العشرين. ومن الرحالة الذين جابوا المنطقة وكتبوا المؤلفات حول رحلاتهم نذكر على سبيل المثال لا الحصر (فالين) الذي زار المنطقة، بما فيها الأردن، في أربعينيات القرن التاسع عشر و(موزيل) الذي جاء في نهاية القرن نفسه والألمانيين (برونو) و(دومازفسكي) اللذين استكشفوا المنطقة في عام 1897. وفي الحقيقة أن اهتمامات أولئك الرحالة قد تعددت بشكل واضح، فمنهم من جاء لدراسة الآثار ومنهم من درس الإنسان ومنهم من درس الطبيعة بشكل عام. ومن الجدير بالذكر أن ملاحظات وكتابات وصور الرحالة الأوائل ذات قيمة علمية عالية، خصوصاً في منطقتنا، نظراً للتغيرات الكبيرة التي شهدتها البيئة والثقافة والإنسان في النصف الثاني من القرن العشرين. فتلك الكتابات والصور وثَّقت لمرحلة مهمة في تاريخنا ما عاد لكثير من مظاهرها الحضارية وجود.
ومن بين الرحالة الذين تركوا لنا الكثير من الكتابات والصور، الرحالة الانجليزية (جيرترود بيل) ، التي لم تكن مختلفة في جنسها فقط بل في أفكارها وطريقة تعاملها مع الأشياء. فهذا الكتاب يقدم رسائل مترجمة و مجموعة من الصور التي وثقت فيها (جيرترود بيل) أسفارها في مناطق ،هي في وقتنا الحاضر جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية، في ثلاث زيارات قامت بها في أعوام 1900 و 1905 و1913/1914. وقد أختار الباحثان ترجمة الرسائل لا المذكرات التي كتبتها (جيرترود بيل)، رغم وجودها، لأن الرسائل تحمل تفاصيل أكثر من المذكرات، كما أن الأخيرة يتكرر فيها كثيراً من المعلومات التي وردت في الرسائل وبشكل مقتضب أحياناً. وما يميز (جيرترود بيل) عن غيرها من الرحالة هو إنها كانت توثق بالصور إضافة إلى كثير من التفاصيل في الرسائل والمذكرات. كما أنها واكبت التغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية في المنطقة كونها زارت المنطقة على فترات متباعدة نوعاً ما وعملت مع المخابرات الإنجليزية منذ 1915. وقد اشتملت الرسائل على تفاصيلٍ تتعلق بالإنسان والأرض والنبات والحيوان. وقد تكون دقة ملاحظتها هي ما شجع المخابرات الإنجليزية على تجنيدها أثناء الحرب العالمية الأولى. والرسائل المترجمة هنا حصل عليها الباحثان بأذن من الأرشيف الخاص (بجيرترود بيل) والموجود في مكتبة جامعة (نيوكاسيل) البريطانية والمتوفرة أيضاً على شبكة الانترنت. وسيلاحظ القارئ بعض الفجوات في الرسائل التي تتعلق بالأردن ومرد ذلك إلى أن الرسائل في التواريخ المفقودة كٌتبت خارج الأردن كما هو الحال في رسائل رحلة 1900. ففي بداية شهر نيسان من عام 1900 عادت (جيرترود بيل) إلى القدس من الأردن وفي نهاية نفس الشهر عادت إلى الأردن وهي في طريقها إلى حوران في سوريا. وبعض الرسائل كتبت في مناطق ليست جزءاً من الأردن في وقتنا الحاضر إلا أن سكانها كانوا من البدو الرحل من قبائل الأردن العريقة، كما هو الحال مع الحويطات الذين كانوا في منطقة الطبيق ، داخل الأراضي السعودية حالياً، عندما كانت (جيرترود بيل) في طريقها إلى حايل. وفي الواقع أن منطقة الطبيق كانت جزءاً من الأردن قبل التعديل الحدودي الذي جرى في ستينيات القرن الماضي. وفي حالاتٍ أخرى تُرجمت رسائل كتبت في مناطق خارج الأردن حتى يبقى القارئ في صورة الأحداث بحيث لا تبدو مبتورة. أما بالنسبة للصور فهناك عدد كبير من الصور التي التقطتها (جيرترود بيل) في الزيارات الثلاث وهي غير ملونة وليست ذات جودة عالية في بعض الأحيان، الا أنها مهمة جداً وذات قيمة لذلك تم تضمين هذا الكتاب عدد من الصور. ويلاحظ المتفحص لأرشيف الصور أن (جيرترود بيل) كانت محبة جداً للآثار وللطبيعة.
حياة (جيرترود بيل)
ولدت (جيرترود بيل) في الرابع عشر من تموز عام 1867م في بلدة (واشنطن هول) في مقاطعة (درم) في شمال شرق انجلترا والدها يدعى هو ووالدتها ميري . في السادسة عشر من عمرها ذهبت (جيرترود بيل) إلى لندن للدراسة في كلية الملكة في شارع (هارلي) ، وبجانب دراستها مارست حياة إجتماعية دافئة من خلال الزيارات التي قامت بها لأصدقاء زوجة والدها . بعد ذلك انتقلت للدراسة في (أكسفورد) حيث كان ذلك الأمر تحدياً لها في ذلك الوقت. فقد التحقت بكلية الليدي (مارجريت) في عام 1886 عندما كانت في الثامنة عشر من عمرها، وقد سمح في ذلك الوقت للنساء بالالتحاق بكليتين فقط في (أكسفورد). في عام 1888 تخرجت (جيرترود بيل) مع مرتبة الشرف الأولى في تخصص التاريخ الحديث ، وقد كانت أول امرأة تحصل على هذه الدرجة في إنجلترا.
وقد مثلت أسفارها حول العالم مصدراً آخر في معرفتها وإدراكها للبلدان والثقافات والشعوب التي زارتها، فبدأت أول رحلة حول العالم في عام 1897 والثانية في عام 1902 وقد كتبت خلال رحلتها رسائل ومذكرات والتقطت صوراً تعد مصدراً هاماً لدراسة تاريخ وثقافة البلدان التي زارتها . ومن بين الرحلات المهمة التي قامت بها جيرترود بيل الرحلات التي قامت بها إلى المنطقة العربية . ففي القدس تعلمت اللغة العربية على يد الأستاذ خليل ذوقان ، وقد مكنها ذلك من التواصل مع الناس خلال تنقلها خاصة في الصحراء العربية في كل من سوريا والأردن والسعودية في الأعوام 1900، كما حرصت دائماً على تصوير وتوثيق المواقع الأثرية. في الفترة من عام 1915 عملت جيرترود بيل مع المخابرات البريطانية التي ضغطت عليها وجندتها لمعرفتها التامة بالمنطقة العربية والقبائل العربية خاصة أثناء الحرب العالمية الأولى . بعد الحرب العالمية الأولى استقرت جيرترود بيل في العراق وقد دفعها حبها للآثار إلى تأسيس المتحف الوطني في بغداد وعملت كذلك مديراً فخرياً للآثار . في عام 1926 توفيت جيرترود بيل في بغداد بعد حياة مليئة بالمغامرات والأسفار والعمل في السياسة خاصة بعد الحرب العالمية الأولى.
رحلة 1905
إن زيارة ج. بيل للأردن في عام 1905 كانت بسبب مخططها في الوصول إلى جبل الدروز وقد عبرت جسر الأردن المقام على نهر الأردن والذي وصفته ببداية الصحراء لتتجنب السلطات التركية والتي كانت تتمركز في الحواضر بشكل رئيسي ن لذلك اختارت الذهاب إلى جبل الدروز عن طريق الصحراء الأردنية التي لا يتواجد فيها الأتراك وليس لهم سلطة على أهلها. وان رغم الرحلة كانت إلى جبل الدروز إلا أن ج. بيل قضت عشرة أيام في الأردن وخلال إقامتها القصيرة في الأردن زارت بعض المناطق الأثرية ووصفتها وصورتها وفي بعض الأحيان عملت مخططات . وبعد أن عبرت الجسر ( جسر نهر الأردن ) سارت عبر السهول والتلال إلى أن وصلت إلى السلط للحصول على إذن من السلطات التركية لتستمر في رحلتها ولتأخذ معها دليل يعرف الطريق ويعرف القبائل التي تقطن على طول الطريق . ولتحقيق هذا الهدف طُلب منها الذهاب إلى الطنيب لمقابلة غرود الذي كان يعرف جميع القبائل وشيوخها .
كما جاء من مشاهد تعبر عن رؤيتها للحياة الاجتماعية في الاردن عبر ما ترجمه الكاتبان إذ تقول فيها:الأحد 12 – شباط – 1905
"لم يزل الجو عاصفا بعض الشيء إلا أنني قررت الشروع في الرحلة مهما كلف الأمر. نهضنا قبيل الساعة التاسعة وركبت ونمرود وقبلان وبعد مضي ما يقارب نصف ساعة عبرنا الخط الحديدي المؤدي لمكة والذي يعد حدا فاصلا حقيقيا بين البادية والقرى. ثم سرنا لمدة تقارب الساعتين عبر السهل المفتوح حتى وصلنا إلى سفح مجموعة من التلال حيث وجدنا جماعة قبلان وهم الدعجة وقد كانوا يقطنون مجموعة من بيوت الشعر يبلغ عددها سته أو سبعة. رحب بنا عمه الشيخ فلاح العيسى وهو رجل ذو شأن في هذه الأنحاء ورائع في شخصيته. دخلنا بيته وبدأت عملية اعداد القهوة للضيوف التي تستغرق ما يقرب الساعة منذ بداية حمس حبات البن وصاعدا. في تلك اللحظات كانت البغال قد وصلت، تناولت طعام الغداء على عجل وركبت مع نمرود وقبلان لمشاهدة موقعا أثريا في التلال القريبة. تبين أن الموقع الأثري مثير للاهتمام حيث توجد فيه رؤوس أعمدة منحوتة وقطع من قوالب فخارية وصهاريج ضخمة واسطبلات. أفترض أن هذا الموقع قد بني من قبل الغساسنة في وقت ما بين القرنين الميلاديين السادس والعاشر. بعد هذه الجولة عدت إلى خيمتي لتناول الشاي وعند الساعة السادسة دعاني قبلان لتناول العشاء مع الشيخ فلاح.
أتمنى أن تتصوروا كيف يبدو بيت الشعر العربي. يصنع هذا البيت الذي يمتاز بالعرض والطول من شعر الماعز الأسود، ويوجد فاصل في منتصفه ليفصل بين الرجال والنساء.الجانب الذي يكون في عكس اتجاه الريح يكون دائما مفتوحا. أما بالنسبة للضوء والدفء فإن مصدرهما النار التي يكون وقودها الشجيرات الصحراوية التي يتم إشعالها في حفرة في الأرض ويصدر عنها دخان مزعج.
لقد دار نقاش أثناء مسيرنا عن الكلمة المناسبة التي تستخدم لوصف آثار بناء بيوت الشعر بعد أن يرحل أصحابها. عند وقت العشاء ناقشت المعلقات (وهي قصائد مشهورة تعود لفترة ما قبل الإسلام) ووجدت ثلاثة أو أربعة أمثلة تدلل على استخدام مفردات مختلفة عن آثار البيوت. هذا النقاش أدى إلى إثارة مزيد من الاهتمام فدنونا من النار لنقرأ النص الذي كان يتنقل بين أيادينا. بعد ذلك قدم طعام العشاء وهو عبارة عن لحم ولبن حامض ورقائق من الخبز وكان عشاءا جيدا. جميع الخدم الذين يرافقونني كانوا ضيوفا ولكن طعامهم قدم لهم أمام الخيمة. كما وتم إرسال وعاء من اللحم والخبز لأحد سائقي البغال "وهو الضيف الذي لم يأتي معنا" الذي تركناه في خيامنا ليرعاها في غيابنا.
بعد أن انتهى العشاء تناولنا القهوة ودخنا بينما كنا جلوس حول النار وقد قضيت مساء ممتعا منصتة لحكايات من الصحراء وعن القمع التركي وأخبرتهم كيف تبدو الأوضاع في مصر التي تعد أرضا موعودة. لا يمكنكم تصور الانطباع الذي تركته حكومتنا في العقل الشرقي. في الحقيقة هناك حركة نزوح عامة من سوريا إلى مصر أو إلى السودان وليس لدي أدني شك في قدرتنا على استغلال سوء سياسة الحكم التركية بشكل كبير وذلك من خلال الاستفادة من أفضل ما لدى الناس هنا. لا أعني بذلك العرب الرحل بالطبع فهم لا يستطيعون الاستقرار في مكان. ليس بوسعي أن أقول وبأمانة ، مع أنني استمتع بكوني ضيفتهم، أنهم سيصبحوا مواطنين جيدين. إن عيني قد تأذتا من دخان النار وبالكاد أرى لأواصل الكتابة".
شباط 1905الشيخ قبلان بن حمود الدعجة
وأخيرا يكون الكاتبان قد إبداعا في نقل الصور والمشاهدات الفكرية وفي معالجة أدب الرحلات بطريقة شيقة ذات المواضيع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية وغيرها وكان قادرين أيضاً على توصيل فكرة النص الأصلي إلى الآخرين.ومما لا شك فيه أن تلك المزايا الفنية تعطي الإبداع الأدبي والإنتاجي في الكتابة دوراً وإسهاماً في الثقافة والحضارة وإثراؤها بطريقة جعلت من الترجمة متعة وقراءتها لذة تتبع خطوات الرحالة على ثرى الاردن .
وخاتمة القول من المفيد الاعتراف بأن هذا العمل المترجم ينبئ عن كفاءة أردنية عالية جدا واعدة ، تنظر إلى الماضي وكأنه الحاضر والى المستقبل وكأنه اللحظة التي نعيشها ألآن .