تعتبر معادلة الخبز أم الأمن معضلة تطفو على السطح في الأردن وفي دول العالم خاصة في فترات التراجع الاقتصادي وزيادة البطالة, هناك مدرستان سياسيتان: الأولى ترى أفضلية الأمن على الخبز والأخرى ترى العكس, وهذه المناظرة تعكس الجدل الدائم بين الواقعيين والمثاليين في إعداد السياسة العامة للدولة مع أن المدرسة الأمنية الواقعية هي المسيطرة في الأردن; فالمدرسة المثالية-الليبرالية الأردنية لا علاقة لها بالليبرالية الاقتصادية الا في مجال بيع الممتلكات العامة وتخفيض نسبة الخصوبة وزيادة حساباتها البنكية.
في الأردن نمر في هذه الأيام كما جرت العادة لدى الحكومات بلنظر في إيجاد آلية لدعم الخبز وكأن ذلك أولوية الأولويات في ظل الأوضاع السياسية, وقد أتفهم مغزى الحكومة بإيصال الدعم إلى مستحقيه في ظل ظروف اقتصادية صعبة, وعجز غير مسبوق للموازنة, وعجز حكومي عن ابتكار الحلول الا على حساب المواطن, وعدم الاقتراب من مصالح النخب المسيطرة, فقد سيطرت حكومات تسيير الاعمال أكثر من حكومات تحمل المسؤولية على إدارة السياسة العامة الأردنية, والأغرب أن الحكومات تعمل بدون ذاكرة سياسية لتجارب مثل الدفع قبل الرفع وما نتج عنها من عدم استقرار داخلي, وتعريض المواطن الأردني للإهانات لمدة عام انتهى بعده أمر الدعم, وكأن المواطن بحاجة إلى استفزازات نفسية إضافية وهو يرى مستوى الخلل في العدالة ومستوى المديونية وما يدفعه لخدمة الدين وقد أصبح وطنه مختبراً لتجارب النظريات الفاشلة التي أصبح أصحابها من الأثرياء على حساب بيع ممتلكات الوطن تحت شعار التطوير والخصخصة وخلق الوظائف والاستثمار الأجنبي... الخ.
ولا يمكن تقنين دعم الأمن الذي ينفق عليه ربع موازنة الحكومة سنويا فهو سلعة عامة (Public Good) كما يجب أن يكون الخبز بغض النظر عن التكلفة المالية; لأن التكلفة السياسية عالية جدا فكلفة حماية المتظاهرين! حسب التقارير الرسمية وصلت إلى حوالي (80) مليون دينار خلال الأشهر الماضية وتكلفة حماية الخبز قد تكون أقل بكثير. ولا أعرف كيف يفكر بعض صناع القرار لدينا? أم أن هذه الأمور تتم عن سبق الإصرار والترصد في ظل التنافس بين مراكز القوى على السلطة, بافتعال المشكلات وحلها من أجل إثبات دورهم والتأكيد عليها, خاصة في ظل غياب الرقابة الحقيقية, وعدم الاهتمام بآراء الناس وكأن ما يحدث في العالم العربي لا يشكل لهم درسا كافياً.
أتمنى أن يكون الابتكار لدى الحكومات على مستوى أعلى مما هو متوفر بحيث تستمع للناس, فهناك كثير من النفقات التي يمكن الحد منها دون الاقتراب من الخبز فهو عنصر أمن هام واسأل أي مواطن وسيعطيك مئات الأمثلة على الفساد الذي يبدو أن الحكومات لا تقدر عليه فتذهب إلى المواطن التي تعتقد أنه ما زال غلبان لكنها هي الغلبانة إذا كانت لا تستطيع أن تستوعب ألف باء اقتصاد سياسي وألف باء نظام إقليمي; فالمواطن يشعر بالغليان! لكن يبدو أن المعضلة الأكبر أننا نطالب بالإصلاح من الذي لا يستطيعون!
بلغ حجم الإنفاق على الأجهزة الأمنية ما معدله(19-24%) من حجم موازنات الحكومات الأردنية خلال الفترة 2000-,2010 حيث وصل حجم الإنفاق في عام 2010 إلى (1. مليار دينار شملت القوات المسلحة بنسبة (55%) وبقية الأجهزة بحوالي (45 %) (الأمن العام, والخدمات الطبية, والدفاع المدني, والدرك) عدا المخابرات العامة التي لم يحدد في الموازنة حجم إنفاقها. وبلغ حجم دعم المواد الغذائية والمحروقات ما معدله (2-3%) من حجم الإنفاق الحكومي الكلي منذ عام 2003 إلى عام ,2010 وشكلت في أعلى مستوى لها عام 2010(197 مليون دينار).
ويلاحظ أن حجم الإنفاق الحكومي على الأمن في زيادة مستمرة, ولا شك في أن الأمن يعتبر من أهم ركائز الدولة الأردنية للمحافظة على الاستقرار, الذي يوفر الفرص ويساند ويخلق بيئة آمنة تلبي معظم حقوق الإنسان خاصة الأمن من الخوف والأمن على الحياة والسلامة الجسدية في بيئة إقليمية غير مستقرة, ويعتبر هذا رأس مال الأردن. لكن تبرز عدة ملاحظات على الإنفاق على الأمن تتضمن: معدل حصة الفرد (177) دينار, وهي في زيادة مستمرة وصلت إلى حوالي (299) دينار في عام .2010
كما أن نسبة الإنفاق في زيادة مستمرة, مما قد يدعو إلى التفكير في ترشيد الإنفاق بالحد من أسباب عدم الاستقرار على سبيل المثال لا الحصر; لذا فعلى الحكومات أن تعيد النظر في نسب الإنفاق في الموازنة على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والخبز, والإنفاق على الأمن وغيره من أوجه الإنفاق; ففي الوقت الذي تزيد فيه نسب الإنفاق على الأمن تتراجع نسب الإنفاق على التعليم والصحة والعمل والخبز, وقد يحتاج الأمر إلى تشريعات جديدة ناظمة لهذا الأمر لمراقبة الإنفاق على الأمن من خلال السلطة التشريعية خاصة استحداث لجان مناظرة لعمل هذه الأجهزة, وأن يكون هناك دور للسلطة التشريعية في إقرار تعيين القيادات العليا لهذه الأجهزة, كما يحصل في الدول الديمقراطية. فهي مؤسسات وطنية وليست ملائكة خاصة تورط بعض القائمين عليها في قضايا فساد كبرى تحدث عنها الرأي العام.
حمى الله الأردن وأمنه من مغامرات ومقامرات صناع القرار الهواة! الذين ما زالوا يعتقدون أن الخبز هو المادة السحرية التي تحل مشكلة الغذاء في وطننا رغم نصائح الأطباء بالتقليل من الخبز الأبيض الذي يشكل في تحليل مضمون الوجبة الأردنية (90%) من المكونات الأساسية.
* أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الهاشمية