تعوّدت النخبة السياسية العربية على مشاهدة أفلام الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة الأميركية والفرنسية، والعديد من الدول الغربية، بصورة دورية. لكن "شارعنا" لم يتعود، أو ربما يحلم أن يشاهد مناظرات متلفزة وحيّة بين مرشحي رئاسة في العالم العربي، كما حصل عندما تابع الملايين المناظرة بين كلّ من عبدالمنعم أبو الفتوح وعمرو موسى على فضائية مصرية.
تلك المناظرة فيلم لم نشاهده من قبل! كنا نشاهد أفلام الزعيم الملهم والقائد العظيم، والحاكم بأمر الله، والإجماع الوطني والالتفاف الجماهيري حول القائد، وفيلم الـ99 %، وفيلم "مرشح وراء القضبان"، بطولة أيمن نور، وفيلم "نعم أو نعم للرئيس المرشّح"، و"إلى الأبد إلى الأبد.." إنتاج سوري.. إلخ.
هي ليست، إذن، مجرد مناظرة تلفزيونية عابرة، إنّما نقطة تحول مهمة ومفصلية، بل انقلاب حقيقي في الثقافة السياسية العربية الحديثة والمعاصرة، يؤسس لمفهوم جديد مختلف وفلسفة غير معهودة في تراثنا وأدبياتنا حول مفهوم الحكم والمسؤولية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم.
يتنافس المرشحان على إرضاء الجماهير ونيل الحظوة لديها، وليس العكس؛ إذ بدا كلاهما من خلفيتين متباينتين. فعمرو موسى ابن الدولة المصرية وشخصية دبلوماسية عريقة، حاول في خطابه أن يركّز على استعادة هيبة الدولة ومؤسساتها وسمعتها الداخلية والخارجية، ومحاكاة مشاعر الناس الوطنية حول صورة رجل الدولة المؤهل القوي، الذي يأتي عبر صناديق الاقتراع، ويريد تخليص البلد من الفوضى والاختلالات الهيكلية. أمّا أبو الفتوح، فجاء خطابه متماهياً مع خلفيته النضالية، ليحاكي طموح الثورة في زمن ديمقراطي تتكرس فيه الحريات السياسية وحقوق الإنسان، والتعددية، وينتهي فيه الفساد، ويتم التأسيس فيه لنظام أكثر عدالة تجاه الطبقات العريضة الفقيرة والمهمّشة.
كلا الخطابين بدا مدروساً وغائياً؛ له أهدافه السياسية ويعرف طبيعة القاعدة الجماهيرية التي يخاطبها. لكن كان واضحاً أنّ موسى قد غسّل يديه سلفاً من محاولة استمالة الإسلاميين، وتوجّه بخطابه إلى الشارع المصري والليبراليين والأقباط، في محاولة لتعويض التفاف نسبة كبيرة من الإسلاميين حول أبو الفتوح.
رائع أن تتخيّل أيّاً من هذين المرشحين رئيساً لمصر؛ فعمرو موسى امتلك في المناظرة شجاعة مذهلة في الدفاع عن أفكاره ووجهة نظره، حتى لو لم تكن تحاكي العواطف الشعبوية، ولم يخش وجوده في مرحلة معينة ضمن النظام المصري السابق. وأبو الفتوح ظهر بوصفه شخصية غير تقليدية، تجمع بين المرجعية الإسلامية والليبرالية الوطنية، وتاريخ من النضال السياسي، وقدراً جيداً من البراغماتية والواقعية، فيها تجليات واضحة من النموذج التركي-الأردوغاني.
المهم أنّ الرئيس المصري القادم لن يأتي على ظهر دبابة ولا بشرعية سياسية مزورة، بل عبر صناديق الاقتراع، نازعاً ثوب القداسة والتبجيل وحلّة "أنصاف الآلهة"، مرتدياً ثوب الخدمة العامة والعمل السياسي الواقعي، مستسلماً -منذ البداية- لحكم صندوق الاقتراع، مرتين فقط، إذ يفقد بعدها حقه في الترشّح الرئاسي.
ما نأمله أن تمر الانتخابات الرئاسية المصرية القادمة بسلام من خلال مشهد سياسي مختلف وجميل، لتكرّس نوعاً جديداً من الحكم العربي، وهو التأثير والإلهام الأكبر للربيع الديمقراطي العربي، مختلف تماماً عن الراهن العربي الذي ما يزال يخضع لمنطق القرون الوسطى في مفاهيم الحكم والإدارة العامة!
رهاننا اليوم على نجاح مصر في العبور إلى نظام ديمقراطي تعددي، إذ سيكون ذلك الرد الحاسم على من ما يزالون يراهنون على أنّ القصة كلها "غمامة صيف عابرة"، ومن ما يزالون يعيشون على أوهام استدامة المرحلة السياسية الراهنة، بالرغم من كل ما أنتجته من أزمات وكوارث على الشعوب والمجتمعات والدول في مختلف المجالات!
الغد