تزايدت في الآونة الأخيرة على الصعيد المحلي الدعوات لإحداث إصلاح سياسي في الأردن، وقد نظرنا بتفاؤل كبير لهذه الدعوات والحراك السياسي الموجود من أجلها.
لكن المؤسف أن الغالبية العظمى من هذه الدعوات ربطت بين وجود الأحزاب السياسية فقط والإصلاح السياسي المنشود، متجاهلةً الواقع الأردني الأصيل من حيث مكانة العشيرة في التركيبة السياسية والاجتماعية والثقافية الأردنية.
وأمام هذه الدعوات والحراك السياسي الذي تشهده الساحة الأردنية الآن من خلال كافة التيارات الحزبية سواء الإسلامية او الوطنية او القومية او اليسارية او الليبرالية، تبرز هواجسنا المتعلقة بتجاهل- وان صح التعبير- بمحاربة التيارات الحزبية واقع العشيرة الأردنية، ذلك انه لم تجري أية تحالفات بين اي تيار حزبي مما ذكر مع العشائر او حتى لم تحدد طبيعة العلاقة التي تجمعها مع العشيرة،بل ان الامر اخذ منحى اكثر خطورة واجحافا بواقع العشيرة وصل حد عدم احترام البعض لنظام ومخرجات العشيرة وعلى حد تعبيرهم لا ينتج عنها إلا تخلفا سياسيا ولا تجلب الا أشخاصا غير أكفاء لا يملكون الثقافة السياسية الواعية .
حقيقة ان هذا الانطباع السائد الذي يشير بان العشيرة تمارس دورا سلبيا في الإصلاح السياسي في الأردن ،هو انطباع خاطيء وغير دقيق بحق العشيرة، التي تمارس في الواقع دورا رياديا واكثر رقيا في التنمية السياسية والإصلاح السياسي في الأردن. وسبب الانطباع الخاطئ مرده بالأساس الخلط المتأتي بحقيقة العشائرية،حيث لا يوجد تمييز بين مفهومين للعشائرية،السلبية منها التي نعني بها: العشائرية المتعصبة الضيقة والتي تنادي بالقيم والعادات والمصالح الضيقة والبعيدة عن الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي والتعليمي، والإيجابية منها التي أخذت تنتهج حديثا النظرة العامة والرقي في التعامل السياسي او في الاختيار للمواقع العامة المهمة سيما البرلمانية والبلدية واذا جاز التعبير العشائرية التي تمارس " النظام الديمقراطي الداخلي".
وما يبرهن ذلك ان اغلب العشائر الأردنية أخذت في الآونة الأخيرة تدخل في مرحلة حراك داخلي من خلال اجتماع فروع كل عشيرة على حدى في الدواوين او "المضافات" لاختيار من هو الأنسب والأكفأ لتمثيلها أمام مرشحي العشائر والقوى السياسية الأخرى في نفس المنطقة. وبالطبع مع انتشار التعليم وثورة الاتصالات الحالية وتغير المفاهيم الاجتماعية والثقافية لدى العشيرة الواحدة اصبح هناك معايير مختلفة من حيث المؤهلات والإمكانات عمّا كان عليه الوضع في السابق لاختيار المرشح والتي تؤهله لمنافسة المرشحين الآخرين .
فمرشحي فروع العشيرة وبالتالي مرشح إجماع العشيرة عليهم الخضوع على مدار شهور عديدة لمناظرات وندوات ولقاءات مع كافة شرائح المنطقة سواء الفعاليات الشبابية او الثقافية او الاجتماعية ويتعرضون الى أسئلة ونقاشات سياسية وحزبية عميقة، وبالتالي فانه من غير المعقول ان تمثل العشيرة نفسها بمرشح إجماع لا يمتلك الثقافة السياسية والمهارات المطلوبة والمقنعة التي تؤهله ليتنافس مع مرشحي العشائر الأخرى.وتجدر الإشارة ان هذا الأسلوب اصبح القاعدة العامة في اختيار اغلب مرشحي العشائر في كافة أنحاء المملكة، ومظهر من مظاهر تباهي العشائر بأبنائها، ولكن مع ذلك لا ننكر ان عدد بسيط من مرشحي العشائر يمثل عشيرته امام العشائر الاخرى اما لنفوذه المالي او لخدماته الاجتماعية والإنسانية، ومنهم من يترشح بشكل مستقل بعيدا عن إرادة العشيرة.
ومن الأمور الإيجابية في هذا الإطار ان أفراد العشيرة المنتخبين بالأسلوب الديمقراطي سالف الذكر في الغالب لديهم ميول واتجاه سياسي محدد قد يكون اتجاه وطني او قومي او اسلامي او تحرري. وبالطبع فان هذا الاتجاه يمكن ان يساعد على تشكيل الكتل ذات الاتجاهات السياسية والحزبية المتعددة داخل البرلمان، وطبعا نحن ليس ببعيدين عن تجربة الكتل التي تشكلت في البرلمان السابق على الرغم مما يشوبها من اتهامات الشخصنة والضعف وما الى ذلك، لكننا نعتبرها بداية جيدة لهذا التوجه او "الأسلوب الديمقراطي للعشائر"، كما نأمل في المستقل ان تتشكل هذه الكتل بناءا على الاتجاهات والميول السياسية المتأتية من نواب العشائر أنفسهم الأمر الذي سيقود فعليا نحو إصلاح سياسي حقيقي.
وطبعا ان ذلك مغاير على الإطلاق لما يطرح بأن مرشحي العشائر سيما لمجلس النواب هم جميعا مرشحي خدمات، فالتجارب المتأتية من خلال "النظام الديمقراطي للعشيرة" تشير بان هذا النظام لا ينتج لنا في الغالب إلا نائب أمة، لديه الكفاءة والإمكانات والمؤهلات المميزة ولديه ميول واتجاه سياسي معين ووعي بكافة قضايا وطنه وامته، كما انه ليس انتقاصا ان يكون هذا النائب حريصا على تقديم الخدمات لمنطقته الذي هو في الأساس منتخب عنها وهو الأقدر على إيصال المشاكل والقضايا الرئيسية التي تعاني منها لصناع القرار حتى يصار معالجتها، على ان يكون ذلك تحت شعار جزء من كل، فالأساس المصلحة العامة ومن لا خير به لاهلة ودائرته لن يكون له خير بوطنه وامته.
وبالمحصلة لا بد من تشجيع "النظام الديمقراطي للعشيرة "،سيما من خلال تقنين ودعم الحراك السياسي الذي يحدث داخل العشيرة كأن يسن لها قوانين وأنظمة ضمن قوانين التنمية السياسية او تتبناها وزارة التنمية السياسية كحالة تدرسها من حيث الإيجابيات والسلبيات التي تؤثر على عملية الإصلاح السياسي في الأردن، لان دعم هذا التوجه يعني خروج فرد العشيرة من حالة العصبية العمياء الى أسلوب أرقى يترك فيه مجالا للكفاءات والإمكانات المتميزة في فرض نفسها وممارسة الأدوار العامة.
حقيقة تلعب العشيرة دورا محوريا في المجتمع الأردني وهي سبب رئيس من أسباب الاستقرار والاعتدال والاتزان في النهج الاجتماعي وحتى السياسي في الأردن، لذا فان المطلوب هو دعم التوجه الديمقراطي للعشيرة والحفاظ على كافة الخصائص والمميزات ضمن هذا الاتجاه، واي اصلاح سياسي منشود لا يأخذ واقع العشيرة كحقيقة فاعلة ورئيسة في الساحة الأردنية سيكون حراك سياسي منقوص لن يكتب له النجاح تماما كمن يتبع السراب بقصد شرب الماء.
فيكفينا اضاعة الوقت والجهد والمال، سيما واننا جربنا مرارا وتكرارا تطبيق النهج الغربي القائم على سيادة الأحزاب السياسية في الحياة السياسية الأردنية، وتولد لدينا جماعات وزمر محدودة العدد نحترم بعضها لكن الأغلبية ذات مصالح ورؤى ضيقة،باستثناء حزب إسلامي وحيد لم يستمد قوته من نجاح التجربة الحزبية في الأردن، بل استمد وجوده وقوته من طبيعة المجتمع الأردني المسلم وتركيبته الاجتماعية، بحيث يعبر هذا الحزب حاليا عن جزء من النسيج السياسي للمجتمع الأردني والمطلوب في ذات الاتجاه دعم باقي الأجزاء من النسيج ووضعها في الاتجاه الصحيح، من خلال دعم" الأسلوب الديمقراطي للعشيرة".فإبن العشيرة المتعلم ذو الرؤية النيرة المتسلح بالمؤهلات الذي يمثل دائرته بناءا على نهج ديمقراطي في عملية الاختيار هو بالمحصلة أردني عربي مسلم إنسان، يهمه وطنه وامته ودينه يسعى لحل عادل لكافة قضاياة الوطنية والقومية والإنسانية.
الكاتب إعلامي في سفارة دولة الإمارات بعمّان
yousefaboalsheeh@hotmail.com