الرحلة من عمان إلى مطار الملكة علياء الدولي لا تستغرق أكثر من ساعة في الأيام العادية ، ولكن في الايام غير العادية وسيما تلك الأيام التي تغلفها الثلوج والبرد والأمطار وتكون مصحوبة بتحذيرات كثيرة متعددة من خطورة القيادة في المناطق التي تتعرض لمنخفضات جوية، وبالرغم من خطورة الطريق إلا أنها رحلة ممتعه ومشوقه ورائعه، وتتجلى روعتها فيما يتخلل المشوار من تساقط للثلج والبرد وسحر وجمال لهذا المنظر الطبيعي الخلاب .
المرة الأولى التي زرت فيها السودان كانت في عام 1987 ضمن فريق البعثة الطبية الهاشمية السابعة التي كان مقرها في اقليم دارفور في مدينة " كاس "، أما الزيارة الثانية فكانت في عام 1988 ضمن بعثة الانقاذ والطواريء التي كان مقرها في العاصمة في إطار العمل في البعثة الهاشمية لمواجهة اخطار السيول والفيضانات التي اجتاحت مدينة الخرطوم ، وكانت منطقة عمل البعثة في مناطق " الكدرة، وابو حليمه والجعليين والفكي هاشم " في الخرطوم .
اما الزيارة الثالثة للسودان فكانت مخصصة للمشاركة في مؤتمر علمي حول " العنف الأسري وأثره على المجتمع العربي " ، وأبدعت امانة اتحاد مجالس البحث العلمي العربية عندما خططت لعقد هذا المؤتمر كون الحديث عن العنف الأسري لم يعد ترفا ولا مضيعة للوقت ، فاحصائيات منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن العنف بين الأفراد هو السبب الثالث للوفيات لمن هم بأعمار تتراوح بين (15-44) سنة. والعنف الأسري يعد أهم أشكال العنف الشائعة بين الأفراد، وضمن هذا المجال فقد بينت نتائج مسح شمل (50) دولة من مختلف أنحاء العالم أن واحدة على الأقل من بين ثلاث نساء تتعرض لأشكال مختلفة من العنف و الإساءة، وأنّ مسبب العنف هو - في الغالب - أحد أفراد الأسرة بالإضافة إلى أن المرأة ليست الضحية الوحيدة للعنف الأسري بل تعود نتائجه السلبية على الأطفال الصغار والأفراد المسنين، لهذا فان المؤتمر سلط الضوء على هذه القضية المؤرقة ووضع المجتمع امام مسؤولياته لمواجهة ثقافة العنف المتغلغلة في عقول بعض أفراد المجتمع ، وتعيش صامته حبيسة جدران مغلفة في بيوت تخشى من ردات فعل عنيفة في حال اخراجها للسطح والحديث عنها، ويجب توضيح المبررات الخاطئة التي يتسلح بها بعض أرباب الأسر في طرق تربية الابناء وتأديبهم وتعذيبهم بشتى الوسائل، وأن يعرف الاهل أن تعديل السلوك لا يبدأ بالضرب والتنكيل والتعذيب؛ بل بالإرشاد والتوجيه وتعديل السلوك عن طريق المعززات الاجتماعية المنطلقة من الحب والحنان والعطف والرعاية والمدعومة بمهارات التواصل الاجتماعي الايجابي، ويجب توضيح الصورة الصحيحة والمشرقة لأصول الدين وأحكام الشرع في قضية " القوامه "؛ فالدين ليس مجرد عبادة بل طريق حياة تحمل اجمل معاني التكاتف والتراحم والتواصل والتواد لتحقيق السعادة بين افراد المجتمع، وأن اساس العلاقة بين الرجل والمرأة في الأسرة يجب أن يبنى على المودة والرحمه والإيثار والتعاون والتسامح وحسن المعاملة والمعاشرة، والقوامة تكليف وليست تشريفا، انها مسؤولية وانفاق ورعاية مصالح الأسرة وادارتها بشكل جيد، وفي حال تعذر الحياة الزوجية ونشوز المرأة فإن تعديل السلوك يتم بخطوات منظمة مرتبة وواضحة بسطها لنا الدين وسخرها لنا لتكون وسائل خير ومنفعَه ، فيبدأ التعديل عن طريق النصح والإرشاد والحكمة والموعظة الحسنة، واذا لم تثمر هذه الطريقة تبدأ مرحلة الهجر في المضاجع ، واذا لم تنجح هذه الطريقة يتم اللجوء للضرب غير المبرح ، والذين يفسرون الدين حسب مصالحهم الخاصة، ويتمسّكون بما يزعمون أنّ الضرب حقٌّ شرعيٌّ لهم، فيبادرون إلى الضرب المؤذي محتجّين بما ورد في الآية 34 من سورة النساء:( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ). نقول لهؤلاء هذا فهم خاطئٍ للدين ومقاصده، إساءّة في التصرّف بالحقّ الذي منحهم الشرعُ إيّاه ، فعليهم التمسك بالنصوص الايمانية والأحاديث الشريفه التي تحثّ الرجال على حسن معاملة الزوجة وإعطائها حقوقها كاملة وعدم خدش كرامتها بقول أو فعل أو الافتراء عليها والإساءه اليها، فعليهم ان لا ينسوا – في غمرة ممارستهم للعنف - هذه النصوص الدينية ويلجأون للضرب والتأديب المبرح في كلّ صغيرةٍ أو كبيرة أو لأسباب تافهه ويجب أن يكون لهم الرسول محمد عليه الصلاة والسلام قدوة وانموذجا في الحياة، فالرسول لم يضرب اياً من زوجاته ، ولا أقلّ من أن نبذل ما في وسعنا لنكون خيّرين مع أهلنا. والمؤتمر بأوراق العمل التي اعدت وقدمت من أساتذة متخصصين في العالم العربي ناقشت بشفافية ووضوح كل المواضيع التي تتعلق بالعنف الأسري في الوطن العربي .
الحديث عن مؤتمر العنف الأسري لا ينسينا الحديث عن السودان ، سودان الخير والكرامة والشهامة العربية ، فمنذ هبوط الطائرة في مطار الخرطوم تشعر بالفخر بما حققته من إنجازات وتطورات فاقت التوقعات ، فبعد حوالي ربع قرن من زيارتي الاولى والثانية للسودان شعرت بالفخر والاعجاب لما تحقق في السودان من نهضة عمرانية وتنموية واقتصادية وتعليمية ، اقولها بفرح كبير لقد اصبحت الخرطوم عاصمة للمؤتمرات والندوات والملتقيات الثقافية والعلمية ، نقله نوعية وتقدم وإبداع في كل المرافق التي تزورها أو تشاهدها وأنت تنتقل من مكان إلى آخر ، أو تسترق السمع عن خدماتها وتطورها ، تجد نفسك وجها لوجه في مؤتمرات ودورات تدريبية وندوات فكرية أو افتتاح مشاريع حضارية تعليمية تنموية ، مؤتمرات للتعليم العام يعقبها استراتيجيات فورية لمعالجة التوصيات التي تتمخض عن المؤتمرات ، لا يوجد توصية تؤجل أو توضع على الرفوف، أثلج صدري دعوتي لحضور مؤتمر وطني لمناقشة التعليم العام في السودان ، نظمته وزارتا التربية والتعليم والتعليم العالي السودانيتين برعاية رئيس الجمهورية المشير عمر البشير لوضع استراتيجية تعليمية للمستقبل فكما هو معروف لا يمكن فصل المدرسة عن الجامعه، ومخرجاتهما تؤثر على تقدم المجتمع، وبعد ان ألقى رئيس الجمهورية خطاب الافتتاح، وتشرفت بالسلام عليه وتبادل أطراف الحديث معه ، سررت وكان مصدر سعادتي وسروري معرفتي السابقة بفخامته التي تعود الى عام 1988 عندما كان مسؤولا عن بعثات الاغاثة والإنقاذ في السودان، وتشرفت بالالتقاء به في ذلك الوقت ، والسبب الآخر ان رئيس الجمهورية والذي حدثته عن هذه الذكريات كان لا يزل يذكر تلك الأيام ولم تُمحَ من ذاكرته، والذي زاد من سروري وبهجتي ان خطاب رئيس الجمهورية التوجيهي سرعان ما تحول الى قرارات تنفيذية من قبل مؤسسات الدولة كافة، هذا هو السودان ، ورشة عمل تسابق الزمن، وتصل الليل بالنهار لتحقيق التقدم والازدهار ، السودان تراه هذه الايام لوحة جميلة مرسومة على ارض الواقع ، جسور معلقة لا يوجد لها مثيل إلا في الدول المتقدمة، فنادق عملاقة ، بنايات وابراج شاهقه ،اسواق ومولات حديثة جدا، مواطن سوداني يعشق الماء والحضراء والوجه الحسن، السودان بيئة ساحرة يمزج فيها الإنسان أصالة تقاليده وتراثه مع صدق وفادته، وجدت نفسي أمام استعداد وجهد مميز من خلية نحل من اسرة اتحاد مجالس البحث العلمي ، تعمل بدقة وتنظيم لاستقبال الوفود وتوفير كل ما يحتاجه المشارك من أوراق وأجهزة عرض وحواسيب وقاعات مؤتمرات حديثة جدا ووسائل اتصال وتوفير الأجواء وسبل الراحة للبحث والنقاش والحوار العلمي المتميز .
وبعد ،،،، لنحرص على تنشئة الأبناء وتربيتهم تربية سليمه وصالحة لاننا سنكون نماذجهم السلوكية في المستقبل، فلنبتعد عن ممارسة السلوك العنيف الذي يلحق اذى ومراره والماً واحباطاً وكآبةً ومعاناة جسديه ونفسية ومشكلات اجتماعية وتفككا اسرياً وعاطفياً خطيراً. ولنتمسك بالرفق والحلم والأناة، والعقل والحكمة، ولتَرْكِ الانقياد لدواعي الاستفزاز والغضب .ولنتذكر المثل الصيني " لا تضرب المرأة ولو بوردة " .
مسك الكلام ،،،، يستحق منظمو هذا المؤتمر العربي في البلد العروبي " السودان " التحية والتقدير، اللهم احفظ السودان، وشعب السودان، ومشير السودان – عمر البشير - الذي تحدى ويتحدى كل المؤامرات التي نسجت وتنسج لزعزعة السودان وتفكيكه وإعاقة تقدمه.
Ohok1960@yahoo.com
اكاديمي،،، تخصص علم اجتماع