مرت أمس الذكرى الحادية عشره لرحيل الفارس الأردني النبيل حابس المجالي, وفيها أن الخيل الاصائل في الجنوب حمحمت, وحملت الريح حداء الفرسان من شيحان إلى الشراة, وهي تعاند الريح متجهة الى الخليل ونابلس, أن لبيك فلسطين, وانثالت بروق مضيئة في باب الواد, وتردد صدى صوت أبو سطام وهو يقود جند الأردن الى نصر مؤزر, سيظل ذكرى مؤلمة في تاريخ العسكرية الصهيونية.
عند فجر أمس صحا العسكر الاردنيون عند الفجر لأداء الصلاة وكان طيف حابس يؤمهم, وحتى الذين لم يعرفوه منهم, كانوا يستلهمون ذكرى الرمز الكبير والأصيل للرجولة والوطنية, وهو الذي كان مدرسة في جيشنا, ما زالت تلهم القادة والجند, كيف يكون لرائحة الشيح والقيصوم فعل النخوة والشهامة, وكيف تكون الكوفية الحمراء بهدبها على جبين العسكري, عنوان كرامة وفداء.
على مدى عمره ظل حابس ذخراً للاردن, وإن تغيب عن المواقع والمناصب, وكانت الأيام السوداء ميدانه, ليعيد لها البياض النقي, وهو كما يقول تاريخه, لم يتوان لحظة عن تلبية نداء الأردن, حين تعصف به العاديات, كان يمتطي صهوة العزة منادياً, ومستحثاً كوامن البطولة والرجولة والشهامة عند الأردنيين, فيتقاطر الرجال من بلقاء الأنفة, ومن أم الخرزات, ومن بطون الصحراء التي تتغنى إلى اليوم, وإلى ما شاء الله, بسيرة عوده أبو تايه, ومن كرك خالد بن الوليد وصلاح الدين الايوبي, ومن أحفاد ابطال معركة الطفيلة الحاسمة في الثورة العربية الكبرى, يلبون نداء القائد الذي عرفوه واحبوه, ليذودوا عن ثرى بلدهم كل طامع.
نعرف أن كل شهيد من شهداء جيشنا, تمثل وهو في النزع الأخير, صورة حابس بكوفيته التي غدت رمزاً, فابتسم متسائلا هل ترضى يا أبا سطام عن أدائي, وكان الجواب يأتي دائماً ان حابس يعرف أن كل جنوده نشامى, وأن واحداً منهم لم يفكر بالفرار من المعركة, هؤلاء الذين تربوا في مدرستة هم الذين استبسلوا في الكرامة, فأعطوا بدمهم للمعركة ولأرضها ولإسمها معاني جديدة, وأعادوا سيرة الجهاد في سبيل الحق والكرامة, ما تستحق من الصفحات الجديدة المضيئة.
حابس الذي كان أول اردني يقود كتيبة من كتائب الجيش, فينتقل بها من نصر إلى آخر, ويمنحها ببطولتة وكبرياء اسم الكتيبة الرابحة بدل الرابعة, لم يكن مجرد قائد عسكري, كان عاشقاً رقيق النفس, شاعراً يؤمن بالجمال ويربطه بالرجولة والبطولة, يعرف أسماء كل الجند, ويحفظ أرقامهم وتواريخ التحاقهم بالجيش, ويسأل كل من يلتقيه منهم عن أحوال عائلته, وأين وصل ابناؤه في دراستهم, ومتى سيكونون قادرين على الالتحاق بالقوات المسلحة, فكان جيشه عائلة واحدة, تعرف أنه أب للجميع لايفرق بينهم, إلا بمقدار عطائهم للأردن, الذي ظل البوصلة التي تقود خطاه, وهو في مواقعه كلها, سواء كانت مدنية أو عسكريه.
تمر الذكرى مستنهضة فينا الهمة, وقيم النشمي أبو سطام, نفتقده وسط كل هذا الركام, نفتقد نخوته التي ألهبت مشاعر الأردنيين, ولا نعده في الغائبين, فمثله حاضر كلما تخرجت كتائب جديدة, لتلتحق بالجيش العربي الأردني, ومثله حاضر في ذاكرة كل شبر في الوطن, وحاضر عند كل ربيع, وهو سيظل مثلاً أعلى تنحني عند ذكره الجباه, احتراماً وإجلالاً ومحبةً ووفاء.
في ذكرى حابس نستذكر ما قاله ذات عشق ( يا حابس قوم كلم الهاتف ) وتضج الصحراء الأبية, والغور وسهول الشمال وشيحان بالنداء, مرددة ما قاله, فما أحوجنا اليوم إلى من هم مثل حابس, رجولة وبطولة ونخوة وشهامة واقتدارا.
الرأي