مع إشراقة يوم جديد، لا يختلف عن الذي سبقه، تنهض الأم من نومها لتبدأ دوامتها المعتادة في تنظيف المنزل، من ثم تتوجه للمطبخ لإعداد وجبة الغداء التي يشترط أن تكون على الطاولة عند الساعة الثالثة والنصف، وهو وقت عودة الزوج من عمله والأبناء من المدرسة.
السعادة تغمر قلب هذه الأم، فطفلها المشاكس ذو الخمسة أعوام لا يصدر ضجيجا، والهدوء يخيم على البيت، فهو منذ الساعة الثامنة صباحا يجلس على كنبته المفضلة، يتابع بشغف أحداث مسلسلاته الكرتونية المفضلة، وعيونه لا تتحرك عن شاشة التلفاز.
وجبات طعامه يتناولها على الكنبة الخاصة به مقابل التلفاز. الأم تحمد الله وتشكره على نعمة البرامج الكرتونية التي تلهي طفلها ساعات طويلة، وتتيح لها القيام بكافة أعمالها من دون ازعاجه وبعيدا عن "نقه" غير المنتهي.
الأب يعود إلى المنزل منهكا من العمل، لا يريد سماع أي أصوات أو ضجيج، ويريد أن يأخذ قسطا من الراحة عبر قيلولة تعيد له نشاطه، كذلك الأبناء الثلاثة يعودون من المدرسة منهكين من يوم دراسي صعب.
ينضم الأبناء الثلاثة إلى حيث يجلس شقيقهم الصغير، يتابعون معه البرامج الكرتونية، والأجواء هادئة، فلا أصوات تزعج الأب وتوقظه من نومه، ووصايا الأم المتكررة نجحت واستطاع الوالد أن يتمتع بنوم مريح. والصغير بقي مكانه حتى الساعة التاسعة ليغفو هناك، من ثم ينقله الأب إلى غرفته..
للأسف.. هذا هو حال كثير من البيوت، يكون فيها التلفاز الركن الأساسي لـ "تلهية" الأطفال مقابل حصول الآباء على أجواء هادئة، بغض النظر عما قد تسببه هذه من زرع لمفردات العنف في نفوسهم.
ولعل ما يحدث من قصص مرعبة لأطفال في عمر الزهور، ضاعت حياتهم وتبخرت أحلامهم وفارقوا الحياة بعد أن قرروا المغامرة في تقليد مشهد شاهدوه في مسلسل كرتوني؛ لم يؤثر بعد بالأهالي ولم يستشعروا الخطر من إمكانية أن تكون خسارتهم مدوية ومشابهة بسبب "الاستهتار" لما يشاهده طفلهم دون أية رقابة أو مسؤولية.
الأسبوع الماضي أقدم طفل على شنق نفسه بواسطة حبل لفه حول عنقه وربطه داخل غرفته، وقام بإلقاء نفسه من النافذة في جبل النزهة بعمان تقليدا لمشهد في مسلسل تلفزيوني كان دوما يتابعه ويحاول تقليده، ما أدى إلى وفاته.
وفي الجزائر ثلاثة أطفال لا يتجاوز سنهم الـ 12 سنة انتحروا بطريقة متشابهة وفي توقيت متزامن بعد عرض المسلسل الكرتوني "المحقق كونان"، ليصل عدد حالات الانتحار في ثلاثة أسابيع إلى خمسة عشر ولدا لا يتجاوز أكبرهم 14 سنة.
تلك البرامج غير المسؤولة تسهم في فتح خيال الطفل على عالم العنف والجريمة وأساليب الانتحار المتبعة بها، ليتأثر بها لدرجة كبيرة، ويقبل عليها بنهم شديد، وتتشكل لديه قناعة بأن كل ما يبث فيها واقعي وصالح لتقليده بجنوح يصعب السيطرة عليه...
ما يحصل مع الأطفال، ينذر بكارثة حقيقية، إن لم يتم السيطرة عليها من قبل الأهالي أولا وأخيرا، ومتابعتهم لأبنائهم عند مشاهدتهم التلفاز ومراقبة كل ما يعرض من برامج ورسوم متحركة، والتركيز على ما يقدم قيم ايجابية ويعلم السلوكيات الحميدة، وعدم تركهم ساعات طويلة بمفردهم يشاهدون ويتخيلون ويطبقون ما يرونه.
ندرك أن وقت الفراغ الذي يعيشه الأطفال سبب في بقائهم أمام الشاشة، ونعي تماما صعوبة انشغال الأطفال بأي شيء آخر غير التلفاز، ولكن يجب على الأهالي توعية أطفالهم جيدا، ومحاورتهم بأن ما يرونه مجرد عالم من الخيال لا يمتّ للحقيقة بصلة، فضلا عن محاولة إيجاد نشاطات أخرى لهم يستمتعون بها وتدر الفائدة عليهم..
الطفل لا يفرق بين الحقيقة والخيال.. فلا تجعلوا أطفالكم ثمنا لمشهد صغير، تتذوقون بسببه مرارة الفقدان والأسى والحرمان والألم.
كنا نقول أطفالنا أكبدنا تمشي على الأرض.
الآن أطفالنا أكبادنا متسمرون أمام الشاشة.
أو معلقون بمشنقة!!
f.alhassan@alghad.jo
الغد