حظيت الزيارة التي قام بها مفتي جمهورية مصر العربية علي جمعة، إلى فلسطين وقبة الصخرة المشرفة، وصلاته في المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين، بانتقادات من جماعات وحركات وأحزاب إسلامية، فيما وجدت قبولا من فلسطينيين، شعبا وحكومة، باعتبارها رسالة إلى المحتل بأن القدس عربية إسلامية، لا يمكن تهويدها أو طمس معالمها مهما فعلت قوات الاحتلال.
المفتي ذهب دعما ومؤازرة للمدينة المحتلة، وفي إطار حملة فلسطينية للفت اهتمام الشعوب الإسلامية إلى القدس الأسيرة، وما تعانيه من تهويد يومي من قبل المحتل، وحتى تبقى المدينة المقدسة مرتبطة بوجدان الشعوب العربية والإسلامية.
الهجوم الذي رافق الزيارة غير مبرر؛ فالمفتي يؤكد - ولا أظنه يقول غير الصدق - أنه ذهب عبر السلطة الوطنية الفلسطينية، وهو ضد التطبيع ولا يؤيده ويرفضه مهما كانت الأسباب والمسببات. ويشدد على أن زيارته تمت عن طريق السلطة لأنه لا يعترف ولا يقر بـ"إسرائيل".
الحملة التي شنتها أحزاب وجماعات إسلامية على الرجل قاسية، وصلت حد مطالبته بـ"التوبة"، حسب ما جاء على لسان المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين همام سعيد.
دعونا نتذكر أن مفتي مصر لم يقابل إسرائيليا (صهيونيا) واحدا في القدس، ولم يعقد اجتماعات معهم في المدينة المقدسة، وإنما ذهب وأدى صلاته، وجال في الحرم القدسي وخرج.
جدل الذهاب إلى فلسطين من خلال السلطة الوطنية الفلسطينية سبق أن أفتت به لجان مقاومة التطبيع، التي يرأسها أمين عام حزب جبهة العمل الإسلامي حمزة منصور.
وجرى حل الأمر منذ زمن بعيد؛ فتم التوافق وقت ذاك أن من يذهب إلى الأرض السليبة، فلسطين، عبر تصريح من السلطة لا يعتبر عمله تطبيعا، وأن التطبيع هو الذهاب إلى سفارة العدو الصهيوني والحصول على "فيزا".
وبطبيعة الحال، فإن الطلب من سفارة إسرائيل في عمان "فيزا" لدخول فلسطين تطبيع مرفوض جملة وتفصيلا، والمفتي ذهب عن طريق السلطة وليس السفارة، فلماذا قامت الدنيا ولم تقعد؟!
لا يجوز أن تكون ردود فعلنا استناداً إلى الفهم الخاطئ لقاعدة "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما". ولذا، فإنني في هذا الجدل أرى أن ما صدر من هجوم على سماحة مفتي جمهورية مصر العربية هو انتصار لفتوى (ربما) كانت متسرعة، خرجت من فم الشيخ يوسف القرضاوي، وقضت بحرمة زيارة القدس الشريف باعتبارها محتلة من قبل إسرائيل.
من حق البعض أن يؤيد ما قاله القرضاوي، كما من حق البعض الآخر تأييد فتوى أخرى أطلقها مفتي الديار المقدسة والمسجد الأقصى قضت بوجوب زيارة المسجد الأقصى (الحزين).
ولذا، من واجبنا سؤال شيخنا القرضاوي: لماذا لم يفت، بالترافق مع فتواه الجدلية، بأن الجهاد لتحرير الأقصى واجب مقدس لا يجوز التقاعس عنه؟!
قبل ما يقرب من شهر ونيف، واتتني الفرصة لزيارة الأقصى، وكنيسة القيامة، والحرم الإبراهيمي، وكنيسة المهد (طبعا عن طريق السلطة الفلسطينية). وللحق، كان الحرم القدسي والحرم الإبراهيمي حزينان بشكل واضح. وقد أثر كثيرا في وجداني كلام علماء الدين الأجلاء في القدس، الذين دعونا إلى زيارة الأقصى، قبلة المسلمين الأولى، مرارا وتكرارا، وعدم جعل الاحتلال ينجح في مسعاه بفصل القدس عن محيطها العربي والإسلامي. وكم لمست تأثرهم ورفضهم للفتوى التي أطلقها القرضاوي، وهو الذي أثار ببعض فتاواه لغطا دينيا، وعارضه الكثير من الشيوخ الأجلاء.
مفتي مصر ذهب إلى الأقصى وهو يعرف مسبقا بفتوى القرضاوي، ويعرف يقينا أن ما يقوم به لا يسمى تطبيعا مع العدو، ويعرف أيضا أن زيارته يمكن أن تساهم في امتصاص قليل من شدة فتوى القرضاي الجدلية، ويعي أن زيارة السجين لا تعني بالمطلق التطبيع مع السجان.
نقول لكل أولئك الذين ثاروا بسبب زيارة المفتي إلى الأقصى: لماذا نريد الاستماع من أذن واحدة، ونرفض الاستماع من الأذن الثانية؟ فربما الأذن التي نسمع بها أصابها التهاب مرضي خطير، وباتت غير قادرة على إيصال الكلام بشكل جيد. دعونا نستمع لكل الآراء ونتحاور حوار العقلاء، وليس حوار الطرشان. الدعوة الآنفة للحوار ليس مقصودا بها الحث على زيارة فلسطين المحتلة بوساطة سفارة إسرائيل، فهذا مرفوض، ولكنها دعوة إلى تقبل اختلاف الرؤى والاجتهادات حول زيارة الأقصى عن طريق السلطة الفلسطينية، وعدم تخوين من يفعل ذلك، ولا يتفق مع رؤية البعض بشأنها ومطالبته بـ"التوبة"؛ فلكل شيخ طريقته، ولكل مفت لسانه الذي يستطيع أن يستحضر به أحكاما كثيرة تؤيد ما ذهب إليه، فالدين ليس حكرا على القرضاوي أو التيار السلفي المصري أو أي تيار إسلامي آخر.
في السياق، فإن ذاكرتي تستحضر وصف نواب سابقين، ونقابيين من جبهة العمل الإسلامي (الإخوان المسلمين) زاروا فلسطين قبل سنوات (عن طريق السلطة الوطنية الفلسطينية)، وصلّوا في المسجد الأقصى، كما فعل مفتي مصر؛ كيف عبروا عند عودتهم عن شعورهم أثناء زيارة القدس. وقتها لم يخرج من يطالبهم بـ"التوبة"، أو ينتقد فعلتهم، فهل أصبح الموضوع لدى البعض "خيار وفقوس؟".
سؤال بريء! لو كان الطرف الآخر الذي حصل عن طريقه مفتي مصر على تصريح للمرور إلى القدس غير السلطة الوطنية الفلسطينية، بمعنى لو كانت "حماس"، فهل كان سيخرج علينا شيخنا الجليل همام سعيد ويطالب مفتي مصر بالتوبة، ويحرم زيارة الأقصى لدعم صمود أهلها؟!
الغد