في مثل هذا اليوم الفضيل قبل 23 عاما، كانت الساعة تقارب الثانية صباحا، حينما تركت بيتي في جبل اللويبدة، وسرت باتجاه بيت الصديق جورج حدادين، نقيب الجيولوجيين الأردنيين آنذاك، الذي كانت قد وردتنا اخبار أنه كان طوال النهار محاصرا في مجمع النقابات المهنية..... طبعا لم أكن املك هاتفا في بيتي، ولم تكن الهواتف النقالة قد خلقت بعد.
تلفتّ في الاتجاهات الستة، كان الصمت مخيمًا بشكل مريب، لكني دخلت من الباب الخارجي للعمارة، وتهيأت لأطرق الباب الداخلي بيدي. وإذْ بها تغوص بالفراغ ..كان الباب مفسوخا، وغير موجود أصلا. عندما ادركت اللعبة، وتهيأت للإستدارة والعودة ، انكسر الصمت والهدوء الثقيلان فجأة، وخرج عليّ العديد من الأشخاص الذين لم الحظ وجودهم قبلا. واقتادوني الى سيارة جيب، ومن هناك الى دائرة المخابرات العامة في العبدلي .
يبدو أن الزنازين كانت حبلى بالكامل، فوضعوني في زنزانة مخصصة لتخزين الفرشات الخاصة بالمعتقلين. وقبل أن استقر تماما جاء من يفتح باب الزنانة الحديدي، وبرفقته شخص اخر، ويُدخلا اليّ العديد من الصحون الملأى بالطعام، كنا في شهر رمضان ، وكان هذا طعام السحور.
نسيت في زحمة الأحداث أن أقول لكم: ان سالم النحاس كان ينتظرني في بيتي في جبل اللويبدة، لأعود وأخبره إذا ما كان جورج حدادين قد استطاع الهرب من مجمع النقابات والعودة للبيت، أم لا. لا شك أنه أحس بأن غيبتي قد طالت، فأدرك انني صرت من المبشرين بالاعتقال.
خلال تناولي طعام السحور، شعرت بأن يدا تطرق بشكل منتظم على جدار زنزانتي الأيمن، كنت قد تعلمت لغة الطرق تلك، لأني كتبت قصيدة بهذا الخصوص – كنت شاعرا انذاك- حول طريقة التواصل بين المعتقلين، كان الرجل يقول لي انه من حركة فتح وأن اسمه محمد. طرقت له اسمي، ولم اعرف تهمتي – لم اكن حزبيا – الا اذا كانت زيارة مطلوب امني في الهزيع الأخير من الليل، تهمة تستحق الاعتقال . ثم سئمت ، ولم استطع اقناع نفسي بالرد والحديث مع الرجل، الذي أرهق يده في الطرق، ليعرف مني ماذا يحصل في الخارج، لكني للأسف كنت لئيما معه، لأني كسول .
صباح اليوم التالي ، أو الذي يليه، أحضروا لي رفيقا في الزنزانة، كان من أعضاء حزب التحرير الإسلامي، وقد أخذوه بعد ساعات من وصوله للتحقيق، وصرنا أصدقاء سريعا....
بعد اسبوعين من البقاء معا في زنزانة تخزين الفرشات، نقلونا الى زنزانة أوسع .
كانت الزنزانة الأقرب الى مكان التحقيق (اليدوي).......بالمناسبة كنت ممنوعا من التدخين، ولم يطلبوني للتحقيق الا في اليوم الثامن والعشرين لاعتقالي .
كان المحقق شابا لطيفا، وقد طلب مني الاعتراف حول انتمائي لحزب الشعب الديمقراطي – حشد- الذي كنت اصلا قد تركته قبل سنوات، واستمرت صداقتي مع الرفاق، فلم اعترف، لأني لم اكن حزبيا، وكان سالم النحاس وجورج حدادين اعضاء في قيادة الحزب، لكن يبدو أن الحزب، لم يكن يشطب المستقيلين من قوائمه، لغايات تضخيم الحجم او غايات اخرى.
ثم سالني المحقق عن سبب تواجدي في بيت جورج حدادين، فعدلت الأسطوانة، حيث كنت قلت لمن اعتقلوني أني جئت اطلب خبزا من اجل العشاء، ولم يناقشوني، لكن ذلك كان يعني ان لي بيتا قريبا، يقبع فيه سالم النحاس، اضافة الى جميع الوثائق الحزبية التي تخص جورج حدادين، وكان قد خبِأها عندي قبل يومين من الاعتقال . عدلت الأسطوانة وقلت أني انقطعت في عمان – بصفتي من سكان مادبا – وجئت لأبيت عند صديقي .
ببساطة، لم يكن المحقق يهتم كثيرا بالموضوع، فهو يعرف أن اعتقالي كان احترازيا، كالمئات غيري، وهو يعرف ،كما اعرف، أن دورنا كحزبين أو كمثقفين في هبة نيسان 1989 كان دورا هامشيا تماما، رغم اننا خرجنا واستقبلونا كأننا ابطال بعد خمسة اشهر، فصدقنا انفسنا، صدقنا انفسنا ، لكن لم يصدقنا أحد!!
ghishan@gmail.com
الدستور