دعونا نُسمِّي الأشياء بأحب أسمائها إلينا، فالغيوم الماخرة عباب هذه السماء ليست إلا رقصة نشوة، أو لمة عرسٍ آن أوانه، فدعونا نقول عن ذلك المطر الأول الذي دهمنا بغتة، بأنه قبلة بكر بين أرض عطشى وسماء ظلت تتلوع شوقاً منذ حنين: هو المطر الأول أيتها المساءات الموشحة بالبركة، ذلك العناق المحموم الموشى بلهفة الغائبين.. فأهلاً بمطر تشرين!. لربما لم يفتكم أن تتنفسوا هواء متواشجاً غباراً وماءً عقب اللقاء الأول السريع؟؟!، فمن منا لم تدوخة تلك البهجة العارمة، إذ تجللنا رائحة المطر الجديد؟!، فكم تمنينا ذات طفولة وخريف، أن تبزغ لنا أجنحة النشوة؛ لنطير ونعصر قطن السماء الملبود ونمص ماءه المكنوز؟!، فكم نتوق للمطر ورائحة اللقاء بعد صيف ساطنا بقيظه ولهيبه، فلا شيء يطفئ لهفتنا إلا دموع الاشتياق، إنه مطر التشرين أيها الأصدقاء يقرع أبوابنا بأصابعه.
الفلاحون يسمون أول المطر(شتوة المساطيح)، فهم كانوا إذا ما جادت السماء بباكورة نعمتها، هبوا إلى الزبيب (العنب المجفف) والقطين المنشور والمسطوح على أسطح البيوت، وجمعوه بسرعة كبيرة خوف أن يتلفه الماء المنهمر، ولكنهم بهذه الشتوة الأولى يتوسمون خيراً بموسم طيب وقريب.
أيام كانت البركة على هذه الأرض، كانت الدنيا توسم (أي تشبع مطراً)، في نهايات أيلول وبدايات تشرين، أما اليوم فقد تبدلت الأشياء غير الأشياء، ففد كان لي صديق، يلومنا أننا نتوكل دائماً على الله أكثر مما ينبغي!!، فأين أنت أيها الصديق؟!، إننا تبدلنا كأيلول، وصرنا لا نتوكل على الله إلا قليلا!!.
الفلاح فينا كان أكثر اتصالاً وأكثر ثقةً بربه، فقد كان يلقي حبه في التراب الجاف، ويتوكل على ربه، الذي لا ينسى أحداً من خلقه، ففي بداية تشرين، ورغم أن الأرض ما تزال تكنز حرارة الصيف في رحمها، فقد كان الفلاحون يهرعون إلى حقولهم، ويبذرون فيها القمح والشعير والفول والعدس.
كان الفلاح منهم يقول بعد أن يبذر البذار: رميت حبي وتوكلت على ربي!، ثم يحرثون الأرض، بكثير من الأمل، فيتطاير الغبار ويتعفر الجو، ولهذا كانت تسمى هذا الزراعة( زراعة العفير)، أي الزراعة في الأرض غير الممطورة بعد، أو الجافة، والقمح المزروع بهذه الطريقة يكون قوياً، ويكون أكثر غلالاً، إذا ما جادت السماء.
الأشياء لا تسمى بأسمائها في هذه الأيام، ولا تؤخذ بنواياها، فالواحد لا يلقي حبه في الأرض، إلا إذا تأكد أن المطر سينزل لا محالة، وبعد أن يمحص النشرات الجوية، على كل الفضائيات، وكأننا لا نتعامل مع رب كريم لا تضيع لديه الحواج!.
قديماً، كانت البركة عامرة في لقمتنا وحياتنا وأيامنا وهي اليوم منزوعة، فيا رب ارحم عبيدك!!!. ramzi972@hotmail.com