«دي إن أي» الثقافة .. حسين نشوان
20-04-2012 03:20 AM
ظهر قبل فترة ليست بعيدة، الاهتمامُ بغياب الرواية البوليسية عن الأدب العربي، لكنه اهتمام اختفى فجأة كما ظهر فجأة، ولم يُعرف سبب الاهتمام، كما لم يُعرف سبب الإهمال.
والواقع أن كثيراً من الأشياء تغيب، وأن كثيراً من الأشياء تنقصنا ولا من سؤال، وأن كثيراً من حقول الإبداع تغيب بصورة أو بأخرى عن الاهتمام، منها أدب الطفل، والسيرة الذاتية والأدب الاعترافات والمذكرات والرحلات، وأدب الخيال العلمي.
قد يكون غياب الأخير مبرراً وفق شرط التحولات المعرفية للمجتمع وتصنيفاته وأنماطه، حيث لا تلتفت المجتمعات النامية إلى الفتوحات الخيالية، بل تبقى مشدودة إلى الماضي بكيفية حنينية، وبالتالي فإن الكتابة والنظر في الخيال يبقى نوعاً من الرفاء الذي يفيض عن نطاق المتخيل وحاجاته.
ويفسَّر غياب أدب الطفل بالهوة الواسعة بين زمان الكتابة وزمان القراءة، وبأن مجال اهتمام القارئ الطفل لا يستطيع أن يلبّيه وعي الكاتب، لاختلاف منظومة القيم والمعارف وهندسة التلقي بينهما.
ومثل ذلك، فإن أدب الاعتراف يحتاج أيضاً إلى شرط موضوعي يحرر الذات للبوح الإنساني الذي يتخطى المحاكمات الأخلاقية والقيمية.
لكن الذي لا يمكن تفسيره -على ما يحتاج معه الأمر من ضرورة تاريخية في زمن اختلاط الأوراق، وتناقض الروايات، وتسيد الرواية الرسمية، وبروز الرواية العولمية التي تلغي كل الذاكرات لمصلحة سرديتها- هو غياب أدب السيرة في بعدَيها: الذاتي/ الشخصي، والغيري.
ربما يكون سبب الغياب هو الخوف، وفكرة الفضيحة، وحساب النتائج التي تنطوي عليها الكتابة من اعترافات تدين الكاتب أو تمس آخرين.
وهو تفسير ينطلق من أن الكتابة السيرية تمثل وثيقة و”مستمسكاً قانونياً” يمكن أن تخلق لصاحبها ولمن بعده المشاكل، وليست مدونة للنظر في الأحداث ووعي بمكنوناتها وإطلالة على خيارات المستقبل.
هذا التفسير التحسُّبي يصدر عن ذاكرة مرعوبة مصابة بوجع رهابي لا ينفصل عن حالة الخوف والرعب التي تسيطر على العقل العربي وذاكرته، وهو يؤشر على فهم خاطئ لوظيفة الحقل الأدبي وفلسفته، وبالمناسبة فقد كان الشعر العربي القديم/ الجاهلي أدباً سيرياً ذاتياً، وغيرياً بامتياز.
إن غياب مثل تلك الشهادات لا يعني غياب حقل أدبي، حسْب، أو التقصير في مجال أو نوع إبداعي، بل يعني غياب تعدد الروايات، وغياب الرواية الشعبية، وغياب مصادر محايدة للدارسين، وفوق كل ذلك، والأهم منه جميعاً، غياب ما يمكن تسميته: ال”دي إن أي” الثقافي.
الراي