المفهوم الثوري في الثقافة اليابانية
د.وليد عبد الهادي العويمر
19-04-2012 06:11 PM
إن القارئ لتاريخ اليابان يجد أن هذه الإمبراطورية العملاقة ذات التاريخ العريق الموغل بالقدم والتي وَقَعَت اتفاقية استسلام عام 1945بعد أن ضُربت بقنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، قد استطاعت أن تحقق أعلى معدلات النمو الاقتصادي عالميا، وتتفوق في أحيان كثيرة على اكبر القوى الاقتصادية في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا في مجال الالكترونيات والتقنيات التكنولوجية والبرمجيات، والتي مكنتها من أن تغزو العالم وتثبت أن التطور في المجال التكنولوجي ليس حكرا على الولايات المتحدة الأمريكية أو على دول أوروبا الغربية.
إن المفهوم الثوري في الثقافة اليابانية والذي جاء بعد عام 1945 يختلف تماما عن المفهوم الثوري العربي في الوقت الراهن. فالثورة بالمفهوم الياباني تقوم على:
• الإصلاح الجذري الذي يحدث نقله نوعية في الاقتصاد والتكنولوجيا في شتى أنواعها، والذي مكن اليابان من أن تمتلك مفاتيح القوة الناعمة التي ساهمت في رفع العلم الياباني في شتى دول العالم من خلال الصناعات العالية التقنية بدلا من الجيوش والطائرات.
• احترام الحاكم وتقديسه، فالإمبراطور في اليابان اعتبر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية بأنه مقدس وانه من سلالة الإله. وقد اثبت الإمبراطور الياباني لشعبه مدى حبه وتفانيه وإخلاصه لهم عندما التف اليابانيون حوله منددين بالولايات المتحدة الأمريكية ورافضين الاستسلام، لكن الإمبراطور أبى أن يدمر شعبه بالتعنت والتعصب، فقبل معاهدة الاستسلام ووقع عليها حفاظا على أرواح هذا الشعب من الدمار أو الأذى ، ومن ثم زاد من احترامه وتقديسه لشعبه وتنازل عن مكانته كقائد مطلق للأمة اليابانية.
• احترام قدسية العمل والإنتاج مما اضطر الشركات اليابانية والمصانع لكي تغلق أبوابها شهرا من كل عام لتعطي للعمال والموظفين إجازة إجبارية لأنهم في ثقافتهم يؤمنون بالعمل والتفاني فيه وليس مثلنا في الشرق الأوسط نؤمن بالخمول والحديث فقط في السياسة والتظاهر والمطالب والحقوق دون أداء الواجبات وكيف يتسنى الوفاء باحتياجات ومطالب الشعب إذا توقف الإنتاج وتعطل العمل وتدهور الاقتصاد وتراجعت السياحة وهرب الاستثمار الأجنبي. فالمواطن الياباني ليس مغرماً بالوظائف الحكومية، بل انه يسعى لتطوير نفسه من خلال عمله في القطاع الخاص حتى يستطيع بعد ذلك أن يطور لنفسه عملا خاصاً به بعيداً عن الدولة. ونتيجة لذلك فقد وصل عدد الشركات الخاصة في اليابان ألان حوالي ستة ملايين شركة خاصة، وبالنظر إلى عدد سكان اليابان البالغ حوالي 128 مليون، نصفهم أطفال ومراهقين ومسنين، وبالتالي يتبقى ما يقارب 65 مليون مواطن يملكون خمسة ملايين شركة، أي كل 13 شخص يملك شركة خاصة.
• الحفاظ على وحدة الجبهة الداخلية وتماسكها. فخلال المرحلة التي تلت هزيمة اليابان وعلى الرغم من تنوع التيارات المؤيدة والمعارضة لاستسلام الإمبراطور، ورغم غياب السلطة الفعلية الشاملة لفترة مؤقتة، إلا أن ذلك لم يتسبب بأي نوع من الصراع الداخلي العنيف بين مختلف هذه التيارات، بل كانت الأنظار موجهة لما يجب القيام به من الآن وصاعدا.
• احترام أفراد الأسرة لبعضهم البعض ويتجلى ذلك في انحناءات الياباني أمام أسرته أو أمام رؤسائه وتزداد درجة الانحناء كلما ارتفع منصب أو مكانة الطرف الآخر.
• الانفتاح على الاستثمار الحقيقي وهو الاستثمار في الموارد البشرية، فاليابان تعاني من محدودة الموارد الطبيعية بدرجة كبيرة، ومع ذلك استطاعت بعد فترة وجيزة من انتهاجها للإصلاح من تحقيق أعلى معدلات النمو الاقتصادي في العالم لتحتل لغاية فترة قريبة المرتبة الثانية عالمياً كقوة اقتصادية بعد الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن استطاعت الصين أن تحل محلها بما لديها من إمكانيات بشرية وطبيعية هائلة.
• رفض التغيير والإصلاح بالقوة. لقد دفع شعور اليابانيون بالهزيمة وبهول الأضرار التي تعرضت لها بلادهم بشريا وماديا ونفسيا إلى التخلي عن أي محاولة للمقاومة والإصلاح بالقوة. وهذا درس مهم لنا، فالتغيير والإصلاح بحاجة إلى وقت حتى يؤتي أكله ولكن نحن العرب نميل دوما إلى استعجال النتائج مما يدفع كثير منا إلى استعمال القوة والعنف لإحداث التغيير والإصلاح المنشود، ولكنه في الواقع لا يصلح بل يزيد الأمر تعقيداً.
• ومما ساهم أيضا في دفع عجلة التنمية والإصلاح بعد الحرب هو الشركات اليابانية الخاصة التي كانت قائمة في فترة ما قبل الحرب والتي استعادت نشاطها بسرعة بعد انتهاء الحرب. وهذا درس يقدم للقطاع الخاص العربي والأردني، ففي ظل الأمن والاستقرار الذي نعيشه وتعيشه كثير من دولنا العربية لا نجد أن القطاع الخاص في عالمنا العربي يقوم بتحمل مسؤولياته ويشارك إلى جانب الحكومات في البناء والتطوير، فكيف بقطاعنا الخاص لو تدهورت الأوضاع الأمنية وانعدم الأمن والاستقرار وطلب منه أن يشارك في تحمل المسؤولية ويخفف عن كاهل الدولة بعضا من المسؤوليات؟
إننا في عالمنا العربي عموما والأردن خصوصا أحوج ما نكون لإعادة دراسة المفهوم الثوري في الثقافة اليابانية والذي مكن هذه الدولة الشحيحة الموارد سواء البشرية أم الطبيعة من أن تعتلي سلم العالمية بكل جدارة واقتدار وجدية، ولترتفع فيها المستويات المعيشية لمواطنيها إلى أعلى المستويات العالمية. وبالتالي يمكن أن يُدرس هذا النموذج الثوري وان نستخلص منه الدروس والعبر، وان نجعله مثالا يحتذى للبناء والتطوير في عالمنا العربي.
** قسم الإعلام والدراسات الاستراتيجية
جامعة الحسين بن طلال
walidwo@hotmail.com