لم يفاجئ العالم فشل كوريا الشمالية في إطلاق صاروخ بعيد المدى الأسبوع الماضي ، ولكن ماأدهش المتابعين في كل مكان هو إعتراف ذلك البلد الشمولي المغلق بالأمر ومفاتحة الشعب بعدم نجاح التجربة التي هلل لها إعلامه وطبل طوال الشهور الماضية.
فقد حاولت كوريا قبل ذلك ثلاث مرات على الأقل لإطلاق هذه الصواريخ بعيدة المدى، ولكن جميع هذه المحاولات- دون إستثناء - باءت بالفشل . ومع هذا فقد درجت وسائل إعلام " بيونغ يانغ " في السابق على التغني بالنصر المزعوم على الدوام ، وكان المعلقون الرسميون يدبجون قصائد المديح للتفوق الفني المذهل الذي أقض مضاجع المستكبرين! مع أن جميع الصواريخ إنفجرت في اللحظة التي إنطلقت فيها .
وقد حار المحللون في أسباب قرار كوريا الشمالية مصارحة شعبها ومفاتحته بالحقيقة المؤلمة هذه المرة ، وهي التي دأبت على الكذب وتحويل الهزائم إلى إنتصارات يتغنى بها الإعلام المضلل – بكسر اللام - لشهور عديدة . وكان هذا البلد قد أطلق صاروخا فاشلا وتغنى بنجاحه المزعوم آخر مرة في العام 2009.
فمالذي تغير منذ ذلك العام وفرض حتى على كوريا الشمالية ، وهي آخر أوكار مدرسة الكذب والتضليل ، أن تلتزم بالمصارحة والشفافية والوضوح ؟؟
لقد حير هذا السؤال المعنيين في الشأن الإعلامي، وبعد تحليل معمق وتفكير توصلوا إلى أن ذلك يعود إلى أن الكذب الإعلامي أصبح مستحيلا في ظل ثورة الإتصالات التي تجتاح العالم ، فقد وصل عدد مالكي أجهزة الهاتف النقال في كوريا الشمالية إلى مايزيد عن مليون شخص العام الماضي بعد أن كان إقتناؤه إلى عهد قريب جريمة يعاقب عليهه القانون .
ويبدو أن سلطات " بيونغ يانغ " قد إرتأت أنها إن أخفت المعلومة حول فشل الصاروخ فقد يخرج عليها بعض المواطنين بصور إلتقطوها بهواتفهم النقالة يظهر فيها الصاروخ وقد ملأت شظاياه المتفجرة عنان السماء .
وبمعنى آخر ، فإن سلطات كوريا الشماية أجبرت إجبارا على قول الحقيقة ، فلم تعد تحتكر وحدها المعلومات والحقائق . فهل أصبح الكذب مستحيلا بعد أن أصبح كل مواطن – حتى في الدول الشمولية المغلقة – صحفيا أو شريكا في عملية نقل وتداول الأخبار ؟؟
لقد شاعت قبل سنوات نظرية المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما التي أسماها "نهاية التاريخ" والتي روج فيها لإنتصار النموذج الأمريكي في الديموقراطية بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي . ورغم الأعتراض والتحفظ على منطلقات فوكوياما الفكرية ، إلأ أننا نستطيع القول أننا وصلنا إلى مرحلة " نهاية الكذب" في الإعلام ليس بمعنى عدم رغبة الحكومات في ممارسة التضليل والتدليس ولكن من زاوية أن إخفاء الحقائق أصبح مستحيلا من الناحية الواقعية على ضوء إنتشار وسائل الإعلام بشكل غير مسبوق في التاريخ البشري وخصوصا الإنترنت والهواتف الذكية والنقالة .
وإذا كانت دولة متحجرة مغلقة مثل كوريا الشمالية قد أدركت هذا الدرس وإستوعبته فاضطرت لقول الحقيقة لأول مرة في تاريخها ربما ، فهل يدرك الإعلاميون الرسميون العرب ، ورثة الصحاف وأحمد سعيد وموسى إبراهيم ، أن حبل الكذب الذي كان قصيرا على الدوام قد إنقطع تماما ولم يعد قادرا على إسعاف أحد ؟
إن من يتابع بعض وسائل الإعلام العربية يكاد يغبط كوريا الشمالية على إنفتاحها وسعة أفقها وإدراكها لحقائق العصر !!