بدءاً وبعيداً عن تأويلات ثقافة ما يسمى بالانجليزية الـ «ديرتي مايندز»، فان هذه المملكة ليست رمزية أو اسماً مستعاراً لأية مملكة في الأرض بدءاً من المملكة المتحدة، انها تقع في جبال الهملايا وهي الوحيدة في العالم التي كما يقول عالم النفس د. أحمد عكاشة التي جعلت من سعادة الفرد أو المواطن مقياساً وطنياً، ولم تصدق ما يقال عن نسب النمو في الدخل القومي.. فتونس مثلاً حققت نسبة لا بأس بها من هذا النمو قبيل الثورة، لكن ذلك لم ينعكس على حياة الأفراد وكذلك مصر أيضاً.
أما المثال المتكرر في المجال الاقتصادي، فهو البرازيل التي حققت نسباً عالية في النمو، لكن ذلك لم يجسد في حياة الأفراد.
وكما يقول د. عكاشة فإن القانون الوحيد في العالم الذي جعل من سعادة المواطن بنداً أساسياً هو القانون الأمريكي، وان كان ذلك لم يترجم في عالم رأسمالي متوحش وفي امبراطورية يعاني ربع سكانها من عدة حرمانات، ومن لا يصدق عليه أن يشاهد فليماً تسجيلياً بعنوان هذه هي أمريكا.
المهم أن مملكة البوتان التي لم يسمع بها الكثيرون جعلت من سعادة المواطن ومتوسط دخله الشخصي لا القومي مقياساً، وهي مملكة لا تملك نشيداً وطنياً طويلاً يملأوه الزئير، لكن أهل هذه المملكة لا يزعمون بأنهم حققوا اليوتوبيا المستحيلة التي طالما حلم بها مصلحون من مختلف الأجناس والثقافات، فالدول كما يقول الروائي والكاتب ميلانو كونديرا تعوض أحياناً عجزها بإعلام نرجسي متورم، لهذا توصل بعد بحث طويل الى أن أناشيد الدول الصغرى غالباً ما تكون شبه ملحمية وكذلك الافراط في مديح الذات.
لقد اتضح أن الحاسوب الاقتصادي الذي يرصد نسب النمو ليس ذكياً بما يكفي، وقد يكون الحاسوب الشعبي رغم بدائيته أذكى منه، لأنه يحدد خطوط الفقر وكثافة العشوائيات وعدد الذين ينامون على الطوى.
ان هذا المنطق يُضاف الى سلسلة حلقات ما يسمى ما بعد الحداثة، فحروب ما بعد الحداثة أصبحت استباقية، وتبحث عن شرعيتها ان كان لها شرعية بعد أن تضع الحرب أوزارها، وتحصد الغنائم كلها.
واقتصاد ما بعد الحداثة لا يشذ عن هذا السيّاق العجيب، فثمة من يزهون بارتفاع نسب النمو في اقتصادياتهم لكنهم يغمضون عن الارتفاع المتناسب عكسياً وليس طردياً في عدد الفقراء والمرضى والأميين المحرومين من فرص التعليم اضافة الى تفاقم البطالة.
لقد آن الأوان لكي يترجل علماء النفس والاجتماع العرب عن صهواتهم الاكاديمية المتعالية ويدلوا بدلائهم في هذه الآبار المهجورة، وما بدأه قبل فترة كل من علماء النفس د. مصطفى حجازي، وعلي زيعور ود. عمار اضافة الى د. سيد ياسين ود. عكاشة قد يكون بداية لقراءات غير سياسية وغير سطحية لما تراكم في الذات العربية الجريحة والمقهورة من مكبوتات وأمراض وانكفاء على النفس، واذا افتضحت ثقافة الفهلوة والوصولية والنفاق السياسي والموعظة الخرقاء التي تريدها أن تحبل حتى لو من جحش فإن الشمس قد تدخل هذه الأقبية العطنة والعفنة التي تتناسل فيها أفكار وأمثال ومواعظ تعيد الانسان الى ما قبل الكهف!!
الدستور