مِزْمَارُ الْحَيِّ لا يُطْرِبُ!
بلال محمد عياصره - لندن
10-04-2012 10:12 PM
الجزْءُ الأوَّلُ
عِنْدَمَا دَخَلْتُ عَلَيْهِ ذَاْتَ صَبَاْحٍ، وَقَدْ كُنْتُ غَاْرِقَاً فِيْ بَحْرِ اللُّغَةِ الإنْجِلِيْزيَِّةِ وَمُنْغَمِسَاً فِيْهِ، لَمْ يُحَاْلِفْنِيَ الْحَظُّ عِنْدَمَاْ ألْقَيْتُ عَلَيْهِ تَحِيَّةَ ذَلِكَ الصَّبَاْحِ بالإنْجِلِيْزِيَّةِ الَّتِيْ تَغَلْغَلْتْ فِي الْحُلوْقِ وَسَكَنَتْ فِي الْعُرُوْقِ. فَغَضِبَ، وَرَدَّ بِصَوْتٍ عَذْبٍ: "وَعَلَيْكُمُ السَّلاْمُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ!" لَمْ اسْتَطِعْ وَقْتَئِذٍ أنْ أنْطِقََ بِبِنْتِ شِفَاْهٍ. لَفَّتْنِيَ الْحِيْرَةُ وَتَمَلَّكَنِيَ مَزِيْجٌ مِنْ مَشَاْعِرِ النَّدَمِ- وَلاتَ حِيْنَ مَنْدَمِ. فَطَفِقْتُ اعْتَذِرُ وَلَكِنَّهُ، بِأدَبِ العُلَمَاْءِ الجَمِّ وَدَمَاْثتَِهِمْ "كَاْمَلَةِ الدَّسَمِ"، رَبَتَ عَلَى كَتِفِي بِيَدٍ رَءوْمٍ، وَقَاْلَ:"اجْلِسْ يَاْ بُنَيَّ.. لا عَلَيْكَ". لَمْ أصَدِّقْ أنَّهُ غَفَرَ لِي زَلَّتِي وَعَفَاْ عَنْ هَفْوَتِي. جَلَسْتُ، وَمَاْ زِلْتُ أتَلَعْثَمُ، تَاْرِكَاً صَمْتِي يَتَكَلَّمُ، وَظَلَّتْ تَلُفُّنِي الحِيْرَةُ وَيَكْتَنِفُنِي النَّدَمُ. فَقَدْ زَلَلَتُ فِيْ حَضْرَةِ "الْخَلِيْفَةِ!".
حِيْنَئِذٍ، شََرَعَ الشَّيْخُ يُحَدِّثُنِي- وَالْعَبْرَةُ تَقْطُرُُ مِنْ عَيْنَيْهِ، وَالْحَسْرَةُ تَرْتَسِمُ عَلَى وَجْنَتَيْهِ، وَالْغَصَّةُ تَسْكُنُ فِيْ أصْغَرَيْهِ- شَرَعَ يُحَدِّثُنِي عَنْ حَاْلِ لِِسَانِ الضَّاْدِ وَمَآلِهِ، وَكَيْفَ عَقَّهُ أهْلُوْهُ وَعَقَرُوْهُ، وَوَأدُوْهُ وَهَجَّنُوْهُ، وَهَشَّمُوْهُ وَهَمَّشُوْهُ... وَسَاْرُوْا وَهَجَرُوْهُ. وَظَلَّ الشَّيْخُ الْكَلِيْمُ يَرْمِي بالَّلائِمَةِ وَالْعَتَبِ، عَلَى أُمَّةِ الضَّاْدِ... أُمَّةِ الْعَرَبِ. ثُمَّ سَاْقَنِي إلَى مَاْ لَذَّ وَطَاْبَ مِنْ حِكَاْيَاْتِ الْفِكْرِ وَالأدَبِ. وَاسْتَفَاْضَ فِيْ حَدِيْثِهِ الشَّجيِّ الرَّقِّ الرَّخِيْمِ، فَأسْهَبَ وأطْنَبَ وأطْرَبَ. ثُمَّ سَاْرَ بِيَ الْهُوَيْنَى، يَرْسُمُ لِيَ الْدَّوْرَ الَّذِيْ يَضْطَلِعُُ بِهِ الْمَجْمَعُُ فِي الْعَمَلِ الْمُعْجَمِيِّ وَالْتَّرْجَمَةِ والتَّعْرِيْبِ، وَغَرْبَلَةِ العَرَبِيَّةِ مِمَّاْ أصَاْبَهَاْ مِنْ شَوَاْئِبِ الْغَزْوِ الْفِكْرِيِّ وَالتَّغْرِيْبِ. وَمَاْ فَتِئَ الرَّجُلُ يُحَدِّثُنِي بِأحَاْدِيْثٍ ذَاْتِ شُجُوْنٍ فَجَّرَتْ إحْسَاْسِي، الْتَقَطْتُّ عَلَى إثْرِهَاْ بَعْضَاً مِنْ أنْفَاْسِي، فَهَدَأ الْبَاْلُ واطْمَأنَّ بِلال. وَسُبْحَاْنَ مُغَيِّر الأحْوَاْلِ!
وأذْكُرُ أنَّهُ كَاْنَ فِيْ جُعْبَتِي سُؤاْلان يَتَّصِلان بالنَّحْتِ فِي العْرَبِيَّةِ مُقَاْرَنَةً بالإنْجِلِيْزِيَّةِ، كَالْبَسْمَلَةِ والْحَمْدَلَةِ والسَّبْحَلَةِ والْحَسْبَلَةِ والْهَلْهَلَةِ والْحَوْقَلَةِ وَمِئاْتٍ مِثْلِهَاْ- مَاْ سَمِعْتُ بِهَاْ مِنْ قَبْلُ- غَصَّ بِهَاْ دَفْتَرِي وَفَاْضَ بِهَا مَحْبَري قَبْلَ أنْ أبْرَحَ الْمَكَاْنَ بِكَأسٍ دِهَاْقٍ مَلآن. سُؤالان اثْنَان تَذَكَّرْتُ أوْلاْهُمَاْ وَنَسِيْتُ الآخَرَ- وَلَمْ اسْتَذْكِرْهُ حَتَّى انْصَرَفْتُ مِنْ مَجْلِسِهِ. وَأنَّى لِي أنْ أذْكُرَهُ وَأنَاْ بِحَضْرَةِ عَبْدِ الْكَرِيْم خَلِيْفَة؟! يَاْ لِهَيْبَةِ الإنْسَانِ وَيَاْ لِهَوْلِ الْمَقَاْمِ وَيَاْ لِقِيْمَةِ الْمَكَاْنِ!!! وَيَاْ لِفَدَاْحَةِ "وَرْطَتِي" وَيَاْ لِعِظَمِ سَقْطَتِي وَيَاْ لِقِلَّةِ حِيْلَتِي!!!
فَأنَاْ بِحَضْرَةِ شَيْخِ الْعَرَبِيَّةِ الرَّزِيْنِ، وَدِرْعِهَا الْمَتِيْنِ، وَرُكْنِهَا الرَّكِيْنِ، وَحِصْنِهَا الحَصِيْنِ، وَسَدِّهَا المَكِيْنِ، وَقَلْعَتِهَا الرَّصِيْنِ، وَخَاْدِمِهَا الْقَويِّ وَحَاْرِسِهَا الأمِيْنِ. كَاْنَ ذَلِكَ فِِيْ مَجْمَعِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيِّةِ الأرْدُنِيِّ- أدَاْمَ اللهُ ألَقَهُ وَتَألُّقَهُ- الَّذِيْ يَتَرَبَّعُ عَبْدُ الْكَرِيْمِ عَلَى عَرْشِهِ، بِوَقَاْرٍ وَاقْتِدَاْرٍ عَزَّ نَظِيْرُهُمَا، وَذَلِكَ مُنْذُ تَأسِيْسِهِ قَبْلَ أزْيَدَ مِنْ ثَلاثَةِ عُقُوْدٍ. لَمْ يَكُنْ مُهِمَّاً لَدَيَّ النِّسْيَاْنُ البَتَّة، فَكُلُّ مَاْ كُنْتُ أخْشَاْهُ هُوَ أنْ أرْفَعَ مَفْعُوْلاً بِهِ، أوْ أنْصِبَ فَاْعِلاً، أوْ ألا أصْرِفَ مَمْنُوْعَاً مِنَ الصَّرْفِ (جَرَّاً أوْ تَنْوِيْنَاً)، أوْ أخْفِقَ فِيْ نَزْعِ الخَاْفِضِ... فانْصَرِفَ خَاْسِئاً نَاْدِمَاً أبْكِيْن! كُنْتُ أخْشَى- وَلَعَمْري هَذَا أدْهَى وَأغْضَبُ وأمَرُّ- أنْ أُقْحِمَ ثَانِيَةً، مِنْ حَيْثُ لا أدْرِي وَأنَاْ فِيْ غَفْلَةٍ مِنْ أمْرِي، كَلِمَةً دَخِيْلَةً أوْ عِبَاْرَةً هَجِيْنَةً، فَأخْدِشُ حَيَاءَ المَكَاْنِ وَأُقَلْقِلُ سَكِيْنَةَ الإنْسَاْنِ وأُثِيْرُ حَفِيْظَةَ "الْخَلِيْفَةِ".
عَبْدَ الْكَرِيْمِ خَلِيْفَة... يَاْ حَاْضِنَ الْعَرَبِيَّةِ فِيْ غُرْبَتِهَا... وَمُؤْنِسَهَا فِيْ وَحْشَتِهَا... مُكَاْفِحَاً وَمُدَاْفِعَاً وَمُنَاْفِحَا... عُذْرَاً مِنْكَ مَرَّاتٍ تَتْرَى... وَطُوْبَى لَكَ طُوْبَى...فِيْ زَمَنٍ شَحَّ فِيْهِ الْغَيُوْرُوْنَ عَلَى الْعَرَبِيِّةِ الْبَتُوْلِ. وَألْفُ ألْفُ تَحِيَّةٍ مُفْعَمَةٍ بِخَاْلِصِ الْمَحَبَّةِ وَوَاْفِرِ الاحْتِرَاْمِ وَبَاْلِغِ التَّقْدِيْرِ...
أمَّاْ بَعْدُ...
أمَاْمَ هَذَاْ الْمَقَاْمِ الْجَلَلِ، سَأنْأى عَنِ الْخَوْضِ فِيْ مُُسْتَنْقَعِ الإنْهِزَاْمِيَّةِ وأدْرَاْنِ التَّبَعِيِّةِ وَوَحْلِ التَّقْلِيْدِ. أعِدُكُم أنَّنِي لَنْ أُبْحِرَ بِكُم فِي خِضَمِّ الأمْرَكَةِ وَلَوْثَةِ الْعَوْلَمَةِ وَمَعْمَعَةِ التَّغْرِيْبِ. وَلَنْ أُعَكِّرَ صَفْوَ أوْقَاْتِكُم بِمُقْتَضَيَاْتِ العَصْرِ والتَّجْدِيْدِ. أعِدُكُم. سَأطلُّ عَلَيْكُم مِنْ هَذِهِ النَّاْفِذَةِ -عَلَى عَجَلٍ- وَكُلِّي أمَلٌ لِجَرْدِ حِسَاْبٍ، بِالْحُسْنَى وَالتَّحَاْبِّ. سَأُحَدِّثُكُم عَنْ مَشْهَدٍ وَمُشَاْهَدَاْتٍ فِيْهَا عُقُوْقٌ وَحُرُوْقٌ وَآهَاْتٌ، وَصَرْخَةٌ وَصَيْحَةٌ وَأنَّاْتٌ.
عُقُوْقٌ "لَيْسَ كَالْعُقُوْقِ". صَرْخَاْتُ أمٍّ جَرِيْحٍ قَذَفَ بِهَا أبْنَاْؤُهَا فِي أُتُوْنِ الْعِنَةِ والْعُتْهِ وَالتَّصَحُّرِ باسْمِ اللَّحَاْقِ بالرَّكْبِ وَمُوَاكَبَةِ الْمَرْكِبِ وَالتَّحَضُّرِ. وَهِِيَ تُنَاْدِيْهم وَتُنَاجِيْهم:"فَلا تَكِلُوْنِي للزَّمَاْنِ فِإنَّنِي... أخَاْفُ عَلَيْكُم أنْ تَحِيْنَ وَفَاْتِي!". سَأُحَدِّثُكُم عَنْ حُرُوْفٍ ضَاْعَتْ وَألْسِنَةٍ تَاْهَتْ وَمَعَاْنٍ بَاْلَتْ. سَأُحَدِّثُكُم عَنْ تَنَكُّرٍ مُؤسِفٍ وَاْضِحٍ، وهُجْراْنٍ مُخْزٍ فَاْضِحٍ.
وَسَأسْألُكُم: لِمَاْذَا لا نَطْرَبُ لِمِزْمَاْرِ حَيِّنَا وَطَبْلِ زَقَّتِنَا وَدَفِّ حَاْرَتِنَا وَقِيْثَاْرَةِ بَيْتِنَا؟! وَلِمَاْذَا لا نَأكُلُ خُبْزَ قَمْحِنَا وَفَاْكِهَةَ جَنَّتِنَا، وَلِمَاْذَا لا نَشْرَبُ حَلِيْبَ نِعَاْجِنَا وَلا نَلبسُ صُوْفَ خِرَاْفِنَا؟! إلَى مَتَى- يَاْ مَعَاْشِرَ الْعَرَبِ- سَنَبْقَى الأمَّة الَّتِي لا تأكُلُ مِمَّا تَزْرَعُ، ولا تَلْبسُ مِمَّا تَصْنَعُ؟!
كَثِيْرةٌ هِيَ الحِكَاْيَاتُ مَرِيْرَةٌ هِيَ الْمُشَاهَدَاْتُ! مَشَاْهِدُ ألَمٍ وَأنِيْنٍ، يَنْدَى لَهَا الْجَبِيْنُ، ونَحْنُ عَنْهَا غَافِلِوْن سَاْهُوْن...
انْتَظِرُوْهَا فِي الجُزْءِ الثَّاْنِي فِي عَموْن.
*بِلال محمد عياصره أكاديمي وباحث في مجال الترجمة والإعلام في زمن النزاع المسلح. مقيم في لندن.
polytlas91@yahoo.com