حاول الظاهر بيبرس أن يقضي على مبدأ تغلب الأقوى من الأمراء المماليك على الحكم ، فأقام نظاما إداريا سمح له أن يجعل الحكم وراثيا في أبنائه ، فاخذ البيعة بولاية العهد لابنه السعيد في سنة 662هـ 1264م . وقد لقي بيبرس حتفه مسموما في دمشق سنة 676هـ 1277م .
تولى بعد الظاهر بيبرس ابنه السعيد ، إلا أن المماليك لم يعترفوا بمبدأ الوراثة ، وتحرك الأمراء الكبار ضده ، ففي سنة 677هـ 1279م خرج الملك السعيد من القاهرة إلى دمشق ، فوجه منها جيشه بقيادة الأمير سيف الدين قلاوون إلى سيس ، ولكن الجيش بعد أدى مهمته نزل في مرج الصفر وأعلن العصيان ولما لم يجبهم عادوا إلى مصر ، فشعر السعيد بدقة الظرف وحراجة الموقف فأرسل أولاده وأهله وثقله إلى الكرك فحصنهم بها . ثم جمع باقي الجيش واستدعى العربان وخرج بهم إلى مصر ، إلا أن أهل الشام تركوه في بلبيس وعادوا إلى الشام . فتوجه إلى القلعة فحوصر بها أسبوعا وأبى المحاصرون إلا أن يخلع نفسه من السلطنة ، فأجابهم ، واقطع هو الكرك واقطع أخيه المسعود الشوبك وأعمالها ، فوصل إلى الكرك في 678هـ 1279م فتسلمها من نائبها الأمير علاء الدين ايدكين الفخري .
وفي القاهرة اجمع الأمراء على تولية أخيه بدر الدين سلامش ، وهو ابن سبع سنين وولوا سيف الدين قلاوون الألفي أتابكا .فاخذ قلاوون يقرب المماليك الصالحية ويبعد الظاهرية ، ثم أقدم على خلع سلامش وارتقى عرش السلطنة ، وأرسل سلامس إلى أخوته في الكرك .
وفي الكرك بدأ السعيد يعمل لاسترداد ملكه ، إلا أن قلاوون أخذهم منهم الشوبك . فتمكن السعيد من استرداد الشوبك ، فأرسل قلاوون قوة إلى الشوبك بقيادة بدر الدين بيليك الايدمري وحاصرها حتى أعادها سنة 678هـ 1280م ، ثم أرسل قلاوون من دس السم للسعيد في الكرك فمات ودفن في الزار قرب مقبرة جعفر الطيار ، وقد حزنت أرملته وهي بنت قلاوون عليه كثيرا وبعد باكية عليه بعد بضعة شهور .
وفي الكرك قام علاء الدين ايدغري الحراني نائبه في الكرك مع عدد من الأمراء قاموا بتنصيب نجم الدين خضر أخي السعيد ولقبوه بالملك المسعود . والذي حاول تكوين حلف شامي في وجه قلاوون بالتعاون مع الأمير سنقر الأشقر الثائر في دمشق . وتمكن المسعود من احتلال السلت وقلعتها ثم زحفت قواته إلى صرخد ، إلا أنها فشلت في حصارها وعادت إلى الكرك . فأصبحت شرقي الأردن موزعة بين ثلاث قوى : الجزء الشمالي تحت سيطرة سنقر الأشقر ، والقسم الأوسط مؤاب والبلقاء والشراة بيد الملك المسعود ، والشوبك بيد الملك المنصور قلاوون .
وفي أواخر 678هـ جرد قلاوون جيشا بقيادة عز الدين أيبك الأفرم وأرسله إلى الكرك ، إلا أن خوفهم من استنجاد الكرك بدمشق جعلهم يرجعون عنها إلى غزة ، ثم هاجمته قوات قلاوون قرب دمشق إلا أن جزءا من جنوده انضم إلى قوات قلاوون ، فانهزم الأشقر أمام سنجر الحلبي ، ودخلت قوات قلاوون دمشق . ثم اقتطع قلاوون البلقاء من المسعود وولى الأمير جمال الدين آقش الشريفي أمير جاندار نيابة السلطنة بالصلت والبلقاء . وأصبحت معظم شرقي الأردن تحت سيطرة قلاوون عدا الكرك .
ثم ما لبث قلاوون أن صالح سنقر الأشقر صاحب دمشق سنة 680هـ 1281م ، ثم خضع المسعود للصلح على أن يكون للمسعود من الموجب شمالا إلى الحسا جنوبا .
وعندما اخذ قلاوون يتأهب للقاء التتار تواردت إليه العساكر من مصر والشام ، وحشد الملك المسعود قوات الكرك لمساندة قوات قلاوون ، وقدم سنقر الأشقر بقواته من حصن صهيون وخرجوا جميعا من دمشق لملاقاة حشود التتار الكثيفة ، بقوة تقدر بثمانين ألف فارس تؤازرهم قوات من الأرمن والتقى الجانبان قرب حمص في 680هـ 1281م وانتهت بانتصار المماليك على قوى التتار .
وعقد قلاوون هدنة مع الفرنج وقشتالة وارغون وبرشلونة وصقلية وجمهورية جنوا والبندقية .
وفي 684هـ 1286م أرسل قلاوون قواته بقيادة الأمير حسام الدين طرنطاي بن عبد الله المنصوري إلى الكرك فحاصروها، وأرسل المسعود وأخوه سلامش شروطهما للاذعان والطاعة لقلاوون وطلبا الأمان ممهورا بخاتم قلاوون نفسه . ونزل الأخوين إلى الأمير طرنطاي وسلماه قلعة الكرك في سنة 685هـ 1286م ثم استدعى الأمير عز الدين أيبك الموصلي نائب الشوبك واقره على نيابة الكرك المملوكية . وعاد الأمير طرنطاي إلى القاهرة وبصحبته أولاد الظاهر بيبرس جميعا ، واستقبلهم السلطان قلاوون استقبالا رسميا مهيبا وبالغ في اكرامهما .
وقد اهتم قلاوون بتحصين قلاع شرقي الأردن في عجلون والصلت والكرك والشوبك ، وبنى خان الحسا وخان القطرانة وخان قياد أي ضبعة خدمة للحاج الشامي . ثم اعتل السلطان قلاوون بينما كان يستعد لغزو عكا بعد أن خرق الإفرنج المعاهدة التجارية المعقودة بين قلاوون وهنري الثاني فقد سبب حماسهم الديني بالتحرش بالمسلمين وقتل عدد منهم ، فأرسل قلاوون تجريدة بقيادة الأمير شمس الدين سنقر المساح وطلب قلاوون من زعماء الإفرنج تسليمه رؤوس الفتنة إلا أنهم لم يستجيبوا فأعلن قلاوون الجهاد المقدس واستنفر الجيوش من جميع البلاد ، وأمر قلاوون بالات الحصار والمجانيق وخرج إلى ظاهر القاهرة إلا أن المرض اشتد عليه وتوفي قلاوون في 689هـ 1290 م .
تولى السلطنة بعد قلاوون ابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل ، وقدمت إليه وفود التهنئة منها وفد الأمير سابق الدين عبية أمير بني عقبة عرب الكرك ، كما قدم وفد من فرنجة عكا للتهنئة ، وفي سنة 690هـ 1291 شرع السلطان الأشرف خليل يعد العدة لفتح عكا فاستنفر الناس من الشام ومصر للجهاد المقدس . وكان نائب الكرك آنذاك المؤرخ بيبرس الدوادار فتجهز من الكرك بالات الحصار والأسلحة للاشتراك بفتح عكا . وقدرت قوات المسلمين المحاصرة لعكا بنحو 60 ألف فارس و160 ألف من المشاة .ووفدت النجدات للإفرنج من كل صوب من الإنجليز والافرنسيون والقبارصة والبيازنة والبنادقة ، يقودهم من كبار قادة الإفرنج وليم بوجيه رئيس الداوية وحنا فيلييه زعيم الفرسان الاستبارية وكنراد فوشتفانجن رئيس فرسان التيوتون بالإضافة إلى الملك هنري الثاني ملك قبرص ومملكة بيت المقدس اللاتينية وأخوه عموري حاكم عكا . ومن شدة القتال هرب الملك هنري إلى قبرص مع ثلاثة آلاف من رجاله .
وكان جيش الكرك بقيادة نائبها بيبرس الدوادار فقد تمكن من النفاذ من فتحة بالسور واجتهد مع جنده لطم ما بين السورين مما مهد للهجوم الكبير في 17 جمادى الأولى 690هـ 18 أيار 1291م الذي كان مصيره الظفر والانتصار بعد حصار دام 44 يوما ، وهكذا سقطت آخر المعاقل الصليبية في بلادنا وأعيدت عكا إلى حظيرة الإسلام . وطلب الأمير بيبرس إعفائه من نيابة الكرك فوضع السلطان مكانه جمال الدين آقوش الأشرفي وعاد السلطان إلى القاهرة .
وقام السلطان الأشرف خليل باعمار قلعة الكرك وتوجه السلطان سنة 692هـ 1293م إلى الكرك والشوبك على الهجن وبرفقته صاحب حماة وبعض الأمراء ، فأصلح أمور قلعة الكرك ورتب أحوالها ، ثم توجه إلى دمشق . وأرسل إلى الأمير عز الدين أيبك نائب الشام أن يهدم قلعة الشوبك . وفي أوائل 693هـ 1293م قتل السلطان الأشرف خليل بن قلاوون في رحلة صيد خارج القاهرة .
ونصب المماليك بعده بيدرا سلطانا ولقبوه بالملك القاهر ، إلا أن الفتنة اشتعلت في البلاد وقام مماليك السلطان الأشرف بقتل بيدرا وأعوانه وأقاموا على عرش السلطنة محمد بن قلاوون أخا الأشرف خليل في سنة 693هـ 1293م وكان عمره تسع سنوات ولقب بالناصر محمد . ولكن كتبغا وأعوانه حجروا على السلطان لصغر سنه ونصبوا الاميرزين الدين كتبغا سلطانا مكانه . فتلقب بالملك العادل. إلا أن نائبه حسام الدين لاجين تمكن من الاستيلاء على السلطنة في سنة 696هـ 1296م ، وأرسل الناصر محمد إلى قلعة الكرك إلى أن يشتد عوده ليتولى السلطنة ، فخرج إلى الكرك في 697هـ .
ولم يكن اهتمام السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين بمنطقة شرقي الأردن اقل من اهتمام سابقيه من السلاطين ، فقد خص قلعة الشوبك بعناية زائدة ، فقد حاول إصلاح ما خربه الأشرف خليل فيها ، فقام بإعادة بنائها في سنة 697هـ 1297م على يد المهندس محمد بن عبد الحميد بإشراف الأمير علاء الدين قبرص المنصوري .
اما الكرك فقد ظلت تمارس عملها كخزانة لأموال سلاطين المماليك ، وقد أعاد السلطان لاجين إليها نائبها الأمير جمال الدين آقوش الاشرفي .
ولكن السلطان حسام الدين لاجين أساء معاملة الأمراء المماليك وشتت شملهم ، فوثب عليه بعض الأمراء سنة 698هـ 1299م وقتلوه بينما كان يلعب الشطرنج مع بعض خواصه . وخلت السلطنة من سلطان ، فقرر الأمراء سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون كي تسكن الفتنة .