بعد أقل من أسبوعين على توقيع معاهدة أمنية بين بغداد وانقرة، تحفظ عليها كرد العراق، عادت تركيا للهجة التهديد باجتياح شمال العراق لتصفية جيوب العمالي الكردستاني، بعد العمليات العسكرية النوعية التي نفذها مقاتلوه مؤخرا بنجاح ضد أهداف تركية، وإذا كانت أنقره تفضل التباحث مع بغداد متجاهلة حكومة إقليم كردستان العراقي التي أبلغتها أكثر من مرة استعدادها للتعاون السياسي والامني والاداري لوضع حد لوجود مقاتلي العمالي الكردستاني في أراضيها، شرط التخلي عن مفهوم الاجتياحات العسكرية، التي لن تحل المشكلة فانها تصر على هذا التجاهل باعتبار أن هذه الخطوة تعني اعترافا رسميا بهم وبأقليمهم الفيدرالي، الذي ترى فيه منطلقا لتاسيس دولة كبيرة تجمع كرد المنطقة الموزعين بينها وبين العراق وسوريه وايران، رغم ان هؤلاء يعلنون ان سقف طموحاتهم هو الحكم الذاتي أو الفدرالية في الدول التي يعيشون فيها لكنهم واثقون ان تركيا تستهدف ايضا محاولة تقويض التجربة الديموقراطية لحكومة كردستان وزعزعة استقرار الاقليم وايقاف خططه التنموية والاستثمارية، والتدخل المباشر في مسألتي كركوك والفيدرالية.ويأتي تصعيد الحكومة التركية ضد اقليم كردستان العراق ليعزز موقع العسكريين الذين ظل اردوغان يعارض توجهاتهم الحربية قبل استنفاد كل السبل الدبلوماسية ،خشية خلط جديد للاوراق في هذه المنطقة الساخنة لايمكن لاحد التنبؤ بنتائجه وكذلك خشية إغضاب الاميركيين الذين يعتبرون الكرد العراقيين في طليعة حلفائهم.
وإذا كان العسكر الاتراك يظنون أن مجرد التهديد بالتوغل سيدفع الاميركيين وكرد العراق للتفكير مرتين ، فإنهم لم يأخذوا في الحسبان الموقف الدولي المتمثل برفض أي اعتداء على تجربة اقليم كردستان العراق ابتداء بموسكو ومرورا بدول الاتحاد الاوروبي وليس انتهاء بموقف الدول العربية التي ستعتبره اعتداء على العراق وليس مجرد تحرش باقليم كردستان، وصولا الى مواقف واشنطن بعسكرها المتمركزين قريبا من حدود التركية العراقية، والمعنية تماما بالدفاع عن اصدقائها الكرد، كما تجاهلوا موقف مقاتلي العمال الكردستاني الذين اعلنوا ردا على التهديدات بملاحقتهم انهم سيبادرون بالعودة الى تركيا لتصعيد عملياتهم العسكرية.
الموقف التركي يدعو للحيرة والتعجب، فهي تسعى من جهة لنيل عضوية الاتحاد الاوروبي لكنها من الجهة الاخرى ترفض تغيير سياساتها تجاه الاقليات العرقية والدينية والتعاطي بايجابية مع المتغيرات التي يشهدها العالم في مجال صيانة حقوق الانسان والاقليات والقوميات المتعددة وهو ما يحتم جلوسها ليس مع كرد العراق فقط، وانما مع ممثلي مواطنيها الكرد المتمردين على سياساتها التمييزية. وما يجب ملاحظته هو عودة قضية إبادة الدولة العثمانية للارمن إلى سطح الاحداث بعد موافقة لجنة بالكونجرس الامريكي على مشروع قرار يصف مذابح الارمن بأنها إبادة جماعية لتساهم في توتير الاجواء بين واشنطن وأنقره التي استدعت سفيرها في أميركا محذرة من أن العلاقات بين انقرة وواشنطن معرضة للخطر ومهاجمة رئيس الوزراء التركي للسياسة الاميركية في العراق ومحاولته المقارنة بين العملية التركية المحتملة واحتلال اميركا للعراق واعلانه عدم المبالاة باستمرار علاقات بلاده المتميزة مع شريكها الاميركي الذي تتركز نقطة ضعفه أمام هذا في اعتماد تواجده العسكري في العراق على قواعده في تركيا وعدم نسيانه للغزو التركي لجزيرة قبرص رغم المعارضة الدولية، واعلانه استعداد حكومته لمواجهة اي انتقادات دولية.
صحيح ان الادارة الاميركية عارضت توجه الكونجرس لادانة مذابح الارمن حفاظا على علاقاتها الاستراتيجية مع انقره مبدية استيائها لكن ذلك لم يؤثر في النظرة التركية المتجاهلة لمواقف تلك الادارة الجمهورية المتناقضة مع الكونجرس المسيطر عليه من الديمقراطيين الذين تعاطفوا مع العضو الذي طرح مشروع القرار وهو عضو في حزبهم تضم دائرته الكثير من الامريكيين من أصل أرمني، وبما يؤكد ان الكونجرس الديمقراطي كان يفكر داخليا ويحسب الاصوات الانتخابية فبل أن ينظر إلى التاثيرات المحتملة لقراره على علاقات بلاده الدوليه التي قد تشمل منعها من استخدام قاعدة انجرليك الجوية في تركيا وإلغاء عقود شراء وتخفيض التأشيرات الثنائية ومنع الطيران الامريكي من استخدام المجال الجوي التركي ووقف المناورات العسكرية المشتركة.
نعرف نظريا ان تركيا لا يمكنها الان دخول شمال العراق دون موافقة الحكومة المنتخبة في بغداد لانها ستنتهك القانون الدولي، ونعرف ان بغداد لن تمنحها تلك الموافقة لفقدانها النفوذ في شمال العراق الذي تسكنه أغلبية كردية والذي رفضت حكومته مرارا طلبات تركية باتخاذ اجراءات صارمة ضد حزب العمال الكردستاني.ولكن متى كانت الحرب تنتظر موافقة القانون الدولي؟.
توغل الجيش التركي في شمال العراق قد يكون مفيدا لحزب العمال الكردستاني. الذي يحاول - رغم اعتقال زعيمه اوجلان - اظهار أنه لا يزال قوة يعول عليها وأنه لا يزال قادرا على الحاق الضرر بالجيش التركي، كما أنه سيؤجج الغضب بين الكرد الاتراك ويقوض خطط الحكومة التركية لتنمية الاقتصاد في منطقة جنوب شرق تركيا التي تعاني اوضاعا اقتصادية بائسة.
وبعد هل لنا أن نرى في التهديدات التركية ضد حليف اميركا العراقي الكردي ما يستهدف التأثير على أعضاء الكونجرس كي لا يؤيدوا القرار الخاص بالارمن ومحاولة للتخفيف من اندفاع المعارضة ووسائل الاعلام في دعواتها لحكومة اردوغان الى اظهار موقف متصلب ازاء المتمردين الاكراد في العراق، او انها استفاقة متجددة للطموحات العثمانية يؤججها انتصار الاسلاميين في الانتخابات وتروق لاردوغان.