طالما كنا ندين اعتماد بعض وسائل الاعلام العربية على اللجوء الى اللغة العامية في برامجها او حتى في نشراتها الاخبارية. ولم يكن يخفى أن هذه البدعة التي بدأت في الستينيات, إنما كانت تهدف الى تركيز الانعزالية اللبنانية, وارساء اي نوع من انواع التمايز مع العروبة.
وعندما برزت القنوات الفضائية الجديدة وقابلتنا بفصحى متقنة, امتدحناها بفرح.
ولم ننتبه الى انه بالتوازي مع الموجة العامية ظل منهاج اللغة العربية في المدارس اللبنانية من اقوى المناهج العربية. في حين تتردى اللغة العربية في الخليج العربي, حتى الاضمحلال. فعلى سبيل المثال, لا تدرس المدارس القطرية اللغة العربية باستثناء مدرسة واحدة في كل البلاد, وكذلك الجامعات.
من هنا, فإن الظاهرة الواحدة تمثل اتجاهين مختلفين وتتجه الى هدفين مختلفين. فاللجوء الى العامية قد يكون عملية احياء الذاكرة الشفوية للناس, وتعميم عاميات, كما حصل مع المصرية واللبنانية والعراقية, مما يقرب بين المجتمعات العربية, كتلك العامية الجميلة التي تغنيها فيروز ووديع الصافي لاحياء الفلكلور اللبناني, بل والعربي, كما يغنيها عبد الحليم وناظم الغزالي, وبموازاة متقنة مع اداء قصائد الفصحى الرائعة, في الكلاسيكيات والقصائد الجديدة لا سيما قصائد المدن. وقد تكون عامية مائعة كل ما تريد ان تقوله للشباب : نحن لسنا عربا.
كذلك, فان التركيز على الفصحى قد يهدف الى أمرين: الاول نعرفه جميعا وهو الحرص على روح الامة وهويتها وتراثها. اما الثاني فقد فاجأنا به خبراء الاعلام الغربيون, في عدد من الابحاث والمخططات الاستراتيجية التي تعتبر مراجع في كليات ومؤسسات البحث, تلخص بالتالي : تتحدد اللغة بتحديد الجمهور المستهدف والتأثير المراد.
ففي بيئة يراد لها تركيز الانعزالية وخلق حالة من العداء والاستعداء بينها وبين سائر العرب لا بد من الدفع الى العامية السطحية. اما في وسائل اعلام ( خاصة الاخبارية ) يراد لها نشر التسويق للسياسة الأمريكية وللتطبيع مع اسرائيل, لا بد من اعتماد فصحى صارمة, تكرس صفة الالتصاق بالعروبة والتماهي مع القطاع من المشاهدين المتماهي معها, والمستهدف لاجتذابه وكسب ثقته.
من هؤلاء الباحثين اذكر على سبيل المثال جون الترمن, وعبدالله شليفر ( اسمه الاصلي غير ذلك ), حيث يركز الاول في بحث له عام 2004 بعنوان " التغيير الذي احدثته الفضائيات " على ان أهم تغيير هو انها جعلت من اسرائيل فاعلا اقليميا عاديا في كل بيت عربي, ويذكر ان وسائل كثيرة ساعدت في تمرير ذلك منها احترام اللغة الفصحى. غير ان شليفر يحلل الموضوع بدقة اكثر اذ يقول إن تعلق الانسان العربي بلغته الكلاسيكية ( اي الفصحى ) هو عامل يجب اخذه بعين الاعتبار, كي تتمكن المحطة المعنية من اكتساب ثقة الجمهور, واكتساب صفة قومية وطنية تجعل خطابها مقبولا, ومعمّما على العرب كلهم, وبالتالي يسهل تمرير ما تريده من استراتيجيات.
غير ان الامر الاكيد, هو ان ثمة فضائيات اخرى تتمسك بالفصحى عن وعي وطني حقيقي, وان هذا النقاش العلمي لا يعني باي حال انتقاصا من واجب التمسك المستميت باللغة الفصحى, بالدفاع عنها, بصيانتها... في بيوتنا واولادنا, في مدارسنا, في حياتنا الاجتماعية والثقافية, وفي وسائل اعلامنا....والا فان الاقتصار على هذه الاخيرة, ان هو الا نفاق... كلمة حق يراد بها باطل.
العرب اليوم