يُحكى أن شاعر الصين الأعظم في كل تاريخها " لي بو " والذي كان الصينيون يعتقدون أنه ملاك طُرِدَ من السماء , أراد ذات يوم أن يُقَّبِلَ صورة القمر المنعكسة على صفحة الماء الناصع في أحد الأنهار فانزلقت قدمه في النهر ولقي حتفه غريقا مستقرا في القاع البعيد .وما بين صورة القمر المنعكسة على كل أديم وصورته الحقيقية في قبة السماء وقف الإنسان دائما ذات الوقفة ونشد نفس المعنى والهدف , فلم يظفر من أمانيه إلا بخداع الصورة وانزلق المنزلق ذاته جانيا على نفسه و تاركا الصورة على حالها للقادمين من بعده .
عجيبة رغبات هذه النفس وبعيد غورها , فهي طاغية في كل حال وخارجة عن الصواب والمنطق , هي دائما بين حالين :
أنفس متعلقة بزخرف موشى بداء الكبر والأنفة , لا ترى في الصورة إلا نفسها ولا تقيم لعواقب الأمور والمنزلقات قيمة , رغباتها شره ووعودها خداع وأغلاطها كفر بواح .
وأنفس أخرى على الهامش المستفيض جاذبية وأغراء , أمانيها سراب وغصاتها اختناق وأمراضها خُبث كامن .
أما الحبل الواصل بين النفسين فهو الكذب المبجل والقهر والغفلة , في خضم ذلك كله كذب الكاذبون واشتط المغالون وضاعت الألفة والشهامة , فأخذت الصورة زخرفها وازينت مؤذنة بقرب الهلاك وأوان العقاب .
أف للذات لا يكاد المرء يظفر بشيء منها إلا انقلبت في الحال مرارة وحسرة , وسحقا لأمنيات ما تمنيناها إلا وجدنا العقبات وأشواك الطريق حاضرة في كل خطوة , أف لقلوب قد خلدت إلى دعة وهوان وأُلقيت في ذل ونكوص , أف للأوصياء على أحلامنا تحدوهم جهالات السياسة وضلالات الرياسة , وهل التاريخ إلا كما وصفه فولتير بأنه السجل المستمر لجرائم البشرية وحماقاتها ؟
البشرية وحماقاتها .. ما ابلغ الوصف وأصدقه , تلك البشرية التي إذا ما قُدِّرَ لها يوما أن تكشف شيئا من الحُجُب التي غلفت الأبصار وتطهر الفضاء من أغشيته المتراكمة فتسعى طليقة نحو غايتها المنشودة , شدَّها وثاق قوي نحو قاع ذلك النهر فحكم عليها بالفناء والخذلان .. وثاق قلبه من حديد ويده من صوان .
لقد تهنا نحن معشر البشر في سعينا نحو الجمال فقد أضعنا الطريق من بدايته يوم استسلمنا لسلطان المرغوب فيه , ضجت الأرض منا لما أحلنا جنتها سوقا يسمسر فيها المسمسرون وينهب غلاتها قطاع الطرق والآثمون , وضعنا أنفسنا في متاهة التبرير والتسويف , رسمنا صورة الفضيلة فدنسنا اللوحة .. حكمنا على الأبصار بأن تزيغ وتطغى فعاش الأكثرون في محراب العمى المطبق و تلذذ الأقلون بغنائم الجباه الخاشعة والأرواح المتعبة , كم من أمنية في هذه المتاهة قد أزرت برجل , وكم من رجل أزرى بألف أمنية أو مليون , وما بين هذا وتلك كان ما كان وحصل ما حصل .
كثيرون لن يصدقوا هذا الكلام وسيجذبهم النهر إلى قاعه وتتملكهم عزة الآثام المبطنة , لكن هذا الوجه أينما التفت في هذا العالم فلن تخذله ظنونه ولن يرى إلا ما تعود عليه من زواق الخديعة وطنين الحناجر الجوفاء , فليكن ما يكن وليمض الركب إلى مستقره فاللقاء قريب والموعد أكيد .
وكثيرون غيرهم سيراهنون على برعم قادر على الإزهار كلما انقضت دورة فلكية , فانبعث شعاع الشمس ودبت الحياة في أوصال ارض أنهكها الجدب والعطش , فلنكن من هؤلاء ولنصر على هذا الرهان ولتخسأ الحياة من دونه .
زمان قال أحد الحكماء " لم أرَ قط إنسانا يحب الفضيلة بقدر ما يحب الجمال " , ويحَهُ أما علِمَ أن الفضيلة هي الجمال والجمال هو الفضيلة ؟
نسيت أن أقول لكم أن " لي بو " كان ثملا عندما انزلق إلى قاع النهر , ترى أين يقع الخط الفاصل بين الصحو والثمالة والذي علينا أن نحترس منه جيدا كي لا تخدعنا الصورة فنستقر في القاع ؟
سبحانك , أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل عليَّ غضبك أو ينزل بي سخطك , لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك .
samhm111@hotmail.com