حالات الاحتجاج الاجتماعي اذا لم تحتكم لبوصلة سياسية فانها معرضة للتحول لحالة غوغائية و تصل الى حتمية النهاية. فاغلب حالات الاحتجاج التي تخترق السقوف في لحظة أوجها تبدأ بفقدان بريقها تدريجياً اذا لم تنتج ايديولجيا تغذيها و تضع لها خارطة طريق سياسية تسير بها الى الامام و تحافظ على مسيرتها و انتاجها و حتى الوصول الى اهدافها.
لسنا نمر هنا في حالة تنظيرية مترفة, بل هي حالة نقد ذاتي معمق يهدف الى تعبيد طريق التغير الوعر. فما مرت به مجتمعاتنا على مر العصور السابقة يقدم لنا الكثير من المواد البحثية التحليلية و التي تستطيع تشخيص المشكلة و تقديم كثير من نقاط الانطلاق المضيئة التي تهدفالى الوصول الى الحلول الجذرية.
دراسة التاريخ المجتمعي تشير الى تركة و ارث كبير من الجهل و التجهيل, و القمع و سلب الكرامة فاشكال المراحل تخضع لعملية تغيير مستمر, لكن يبقى انتهاك القيمة الانسانية السمة المشتركة الكبرى بين ثلاث مراحل تاريخية كانت كافية للقضاء على الفكر المجتمعي و تمزيقه. فمن الاقطاع الى الاستعمار الى الدكتاتورية عاشت الشخصية العربية تجارب مريرة لازالت آثارها واضحة الى اليوم, و لعل اكثر التحديات التي تواجه انتشار الفكر الاصلاحي هو مواجهة ما يسمى اليوم "منتج التجهيل الاقطاعي".
و للتبسيط فان الاقطاع عندما يسود , يكون هدف الاقطاعيين فرض السيطرة المجتمعية عن طريق تعميق الجهل و العمل على تجهيل الناس التالي و تحويلهم لأدوات طيعة للحكم, و بما ان حقبة الاقطاع لا يمكن ان تستمر فلابد من انقلاب المظلومين على الظالم, تبقى المعضلة الأكبر متمثلة في انتاج الفكر البديل و الحالة التوافقية الجديدة القادرة على خلق مناخ الارتياح للقادم. حيث أن التجهيل المستمر مهد و وضع الرواسي للعقبات الاساسية التي تواجه البناء الفكري, هذه المرحلة هي الأدق و الاخطر و يجب العمل على تجاوزها بحرفية و حذر! ذاك ان الشخصية المنتجة من قبل هذه الأنظمة ترتكز في غالب الأحيان على خاصيتين أساسيتين: تضخم حالة الأنا و ارتفاع منسوب الجهل, و هذا يشكل معضلة حقيقية في التواصل و التخاطب و التثقيف و يجعل من مهمة خلق حالة تلاحمية مع المحيط او ايجاد قضايا توحيدية مهمة شبه مستحيلة.
أين تكمن أهمية العقل السياسي في تسييس حراكات الاحتجاج الاجتماعي و عقلنتها؟
تكمن أهمية العقل السياسي في القدرة التي يوفرها للوصول الى توظيف مفهوم القوة و استثمارها بالطرق الايجابية. فتقديم دراسة تحليلية و خطة براغماتية هادفة لا يمكن ان يتم دون وجود ما يسمى ضابط الايقاع السياسي. أما المنتج المجرد من التفكير و المفعم بالعاطفة فمواجهته محكومة الى خسارة مؤكدة ذات طابع نهاية حزين, ذاك ان طبيعة المواجهة لا تأخذ في عين الاعتبار ضرورة اتخاذ التدبيرات اللازمة للمواجهة و رسم الخطط البديلة ايضاً و القادرة على التعامل مع المتغيرات.
الكاتب الكبير حنا مينة كان قد رسم صورة تقريبية الى منتج هذه الحالة المجتمعية, و عرضه في شخص "مفيد" بطل رواية "نهاية رجل شجاع".فهو شخص جريء مجرد من الخوف, و تساعده قوته الجسدية منذ نعومة أظفاره على احتمال ما لا يحتمل و القيام بكل شيء يعجز عنه الآخرون. و بالرغم من القوة الجسدية الهائلة لم يستطع مفيد توظيف قوته لانتاج حالة تغيير, بل اصر دائماً على شكل من اشكال المواجهة العفوية و التي احتكمت الى رد الفعل و محدودية التأثير.
مفيد نموذج لغياب التخطيط و الايمان فقط بقدرة المواجهة الجسدية على التغيير! لكن الحقيقية أن التغيير يحتاج الى تخطيط, و توظيف طاقات و استثمار قدرات, و يحتاج قبل كل هذا الى عقلية مرنة و ايمان بالمواجهة و لكن للاسف, اليوم لازالت الأغلبية في معركتها مع التغيير مسكونة بصورة مفيد في مواجهتها مع قوى الشد العكسي. فمفيد الرجل الذي لا يخشى الصدام يُعرف مواجهته على انه جرأة مفرطة لكنه في الحقيقة صدام دون تفكير و مواجهة دون تدبير. اذاً فالعقبة الأساسية أمام شعوبنا اليوم هو وصول الأغلبية الى القناعة القائمة على أن منتج المواجهة مع الظلم و القادر على احداث التغيير لابد ان يحتكم الى العقل و الدهاء و الا فان النتيجة الحتمية هي الخسارة و التي تبرر في النهاية على انها نهاية رجل شجاع!
http://amersabaileh.blogspot.com