(التلاسن الفلسطيني اتهاما ودفاعا عن "المال الايراني" و"المال الأميركي" يثير سؤالا عن "المال العربي" الذي يتدفق سيالا ببذخ لتمويل كل ما يشتت الجهد العربي والاسلامي بعيدا عن القضية المركزية للأمة)
وسط تعويم إعلامي لـ"حل الدولة الواحدة"، في خضم تحذيرات متواترة من فشل "حل الدولتين"، حذرت الأمم المتحدة في ختام اجتماع لجنة تنسيق الدول المانحة في بروكسل يوم الأربعاء الماضي من أن خزانة السلطة الفلسطينية تواجه الإفلاس، وحذر رئيس وزراء السلطة برام الله، د. سلام فياض، من أن حكومته في خطر إن لم يسعفها المانحون بحوالي مليار دولار أميركي على عجل.
وكان الحل لأزمة التمول الفلسطيني في رأي منسق الأمم المتحدة ل"عملية السلام" روبرت سري، الذي لم يعد له ما ينسقه، هو في استئناف مفاوضات منظمة التحرير الفلسطينية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي لأن "فشل الطرفين في استئناف الحوار بات يهدد الآن الجهود الجارية من أجل قيام الدولة الفلسطينية القابلة للحياة".
ولهذا السبب على وجه التحديد، استشعر الرئيس الأميركي باراك أوباما مخاطر انهيار السلطة كي يقتطع فسحة من الوقت من حملته الانتخابية ليهاتف الرئيس محمود عباس يوم الاثنين الماضي، لتلحق به بعد يومين وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون فتهاتفه بدورها لتحث عباس على مواصلة الاتصالات والمشاورات، ربما بانتظار اجتماع اللجنة الرباعية الدولية بواشنطن العاصمة الشهر المقبل، حيث سوف يستمر التلويح ب"جزرة" الدولة الفلسطينية التي لا يمنع قيامها سوى "الرباعية" ذاتها نتيجة انحياز الولايات المتحدة لدولة الاحتلال، وعجز الأمم المتحدة والاتحادان الأوروبي والروسي عن التحرر من الهيمنة الأميركية على هذه اللجنة الدولية التي يحول وجودها دون إعادة القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة التي فجرت الصراع في الشرق الأوسط بقرار تقسيم فلسطين الذي فرضته على المنطقة والمجتمع الدولي عام 1947.
إن إعلان عضو تنفيذية المنظمة أحمد قريع مؤخرا بأن حل "الدولة الواحدة" هو أحد خيارات منظمة التحرير حاليا، وهو نفسه عراب المفاوضات السرية التي قادت إلى تبني "حل الدولتين" ك"مشروع وطني"، لأن حكومة الاحتلال "لم تبق أمام الفلسطينيين أي خيار سوى هذا التوجه" كما قال أخوه في حركة فتح د. عبد الله أبو سمهدانة رئيس قيادة الحركة في المحافظات الجنوبية، هو إعلان مدوي بفشل "حل الدولتين"، وفشل "المشروع الوطني" للمنظمة، وفشل "عملية السلام" وفشل "الرباعية" الدولية، وفشل "الفياضية" كمشروع لبناء مؤسسات الدولة تحت الاحتلال، مما يسوغ "القلق الأميركي" لحال هذه المؤسسات كما صرحت المتحدثة بلسان الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند يوم الثلاثاء الماضي، ويسوغ قول مسؤول ملف القدس بحركة فتح حاتم عبد القادر: "نحن كفتح مشروع سياسي فشل".
لكن الأخطر من هذا الفشل هو "حل الدولة الواحدة" البديل الذي يهدد مفاوض منظمة التحرير به الآن لأن إمكانية نجاحه أكثر استحالة من إمكانية نجاح "حل الدولتين"، فهو هروب إلى الأمام يوغل في أوهام التسوية السياسية بينما المطلوب وطنيا هو مراجعة وتراجع عن استراتيجية التسوية السياسية التي قادت إلى الفشل الراهن، ناهيك عن السقوط في فخ اليمين الصهيوني العنصري الحاكم في دولة الاحتلال الذي ضم القدس ويسعى حثيثا إلى ضم "يهودا والسامرة" في الضفة الغربية المحتلة سعيا إلى "حل الدولة الواحدة اليهودية" ولا يوجد في جعبته سوى "السلام الاقتصادي" و"السلام مقابل الأمن" بدل مبدأ السلام مقابل الأرض كأساس ل"حل الدولتين" المنهار.
في مثل هذه الأيام من العام الماضي كانت الرباعية والبنك وصندوق النقد الدوليان والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي يصدرون الشهادات العلنية بأن نجاح "الفياضية" في بناء مؤسسات الدولة أهل السلطة الفلسطينية لإقامة دولة "في أي وقت في المستقبل القريب" كما أعلن، مثلا، البنك الدولي، وأن "المؤسسات الفلسطينية اليوم تقارن ايجابيا بمؤسسات الدول العريقة" كما أعلنت مفوضة شؤون السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي البارونة البريطانية كاثرين آشتون.
وبناء على هذه "الشهادات" أعلن عباس وفياض شهر أيلول / سبتمبر الماضي موعدا نهائيا فاصلا لتحويل الدولة الفلسطينية من "حلم" إلى "واقع"، وذهبا إلى الأمم المتحدة للاعتراف بهذه الدولة ولقبولها عضوا في المنظمة الأممية، ليفاجآ بأن مصدري شهادات ولادة الدولة المأمولة هم أنفسهم الذين إما سارعوا إلى إجهاض جنينها قبل ولادته أو كشفوا خداعهم للشعب الفلسطيني بالكشف عن كون الحمل بهذه الدولة كان حملا كاذبا، ليعلن تقرير للبنك الدولي في الحادي والعشرين من الشهر الجاري بأن "الأزمة المالية الفلسطينية" الراهنة "تنطوي على خطر يهدد المكاسب التي تحققت خلال السنوات الأخيرة في بناء المؤسسات". فقد "اختفى الوليد" فجأة بالرغم من وجود "شهادة ولادته" كما كتب ديميتريس بوريس الباحث في مجلس العلاقات الأوروبية الفلسطينية بلندن يوم الأربعاء الماضي.
إن اجتماع المانحين في بروكسل الأربعاء الماضي يذكر بأن أموال المانحين هي التي مولت مسيرة الفشل طوال العشرين عاما المنصرمة، وهي اليوم تسعى إلى تمويل الوضع الراهن الفاشل من أجل إطالة عمر هذه المسيرة، بالاستمرار في تمويل الاحتلال عن طريق إعفاء دولته من التزاماتها المالية كقوة قائمة بالاحتلال بموجب القانون الدولي.
وإذا كان لهؤلاء "المانحين" مصالحهم الواضحة في استمرار ارتهان الشعب الفلسطيني لتمويلهم بالقطارة لاستمرار تعويم سلطة لم يعد قادتها يجدون أي حرج في الإعلان بأنهم سلطة بلا أي سلطة، فإن استمرار تمويل الوضع الراهن لم يعد بالتاكيد يخدم المصالح الوطنية الفلسطينية.
والأسباب واضحة. فاستمرار تمويل المانحين، واستمرار المانحين في التلويح ب"جزرة" الدولة الفلسطينية، مشروطان باستئناف المفاوضات، واستئناف المفاوضات بمرجعياتها ورعاتها ومفاوضيها وشروطها السابقة هو الرصاصة القاتلة للمصالحة الفلسطينية.
إن التزامن بين انهيار اتفاق الدوحة للمصالحة وبين الكشف عن مباحثات مالية بين السلطة في رام الله وبين حكومة الاحتلال، نفى المستشار السياسي للرئيس عباس، نمر حماد، أن تكون "مفاوضات"، لتعديل اتفاقية باريس المالية التي ارتهنت تحصيل الضرائب والرسوم الجمركية الفلسطينية لدولة الاحتلال ومنحتها حصة فيها يوضح كيف تحول عدم وفاء المانحين بتعهداتهم المالية إلى "عصا" ترغم السلطة الفلسطينية على البحث عن حلول لأزماتها المالية لدي دولة الاحتلال وهي السبب الأول والأخير فيها.
ومع ذلك لا يجد عضو مركزية فتح عزام الأحمد ، وفتح هي التي تقود السلطة في رام الله، أي حرج في إعلان أن "اتفاق الدوحة بات في الثلاجة"، ليس لأن تمويل المانحين يشترط عدم اتمام المصالحة، ولأن انقاذ السلطة وحكومتها في رام الله من أزمتها المالية مشروط بعدم اتمام المصالحة، بل لأن "المال الايراني" يخربها كما قال.
ولا يمكن تفادي ملاحظتين في هذا السياق، الأولى المقارنة بين تمول فلسطيني من أجل الصمود ومقاومة الاحتلال وفك التبعية لدولته وبين تمول في الاتجاه الآخر المعاكس تماما.
والملاحظة الثانية في هذا التلاسن الفلسطيني اتهاما ودفاعا عن "المال الايراني" و"المال الأميركي" تثير سؤالا لا يمكن تفاديه كذلك عن "المال العربي" الذي يتدفق سيالا ببذخ يضن بالنزر اليسير منه على الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، سلطة ومقاومة، لتمويل التدخل الأجنبي والتمرد المسلح في أقطار شقيقة وكل ما يشتت الجهد العربي والاسلامي بعيدا عن القضية المركزية للأمة، عربية وإسلامية، لا بل ويساهم في حل الأزمات المالية للمسؤولين الأميركان والأوروبيين عن استمرار احتلال فلسطين وشعبها وأزماته.
أليس في وفرة عائدات النفط العربي (800 مليار دولار العام الماضي في دول الخليج العربية الست فقط عدا عن العراق وليبيا وغيرهما) ما يغني الفلسطينيين، سلطة ومقاومة، عن "المال الايراني" و"المال الأميركي" وينهي أية أسباب مالية مدعاة للانقسام الفلسطيني وينهي كذلك الذرائع العربية لحجب الدعم المالي عن السلطة والمقاومة على حد سواء، ليظل الفلسطينيون رهائن تحت الاحتلال للتمول "غير العربي" ؟!
nassernicola@ymail.com