إطلالات ثلاث ستحكم هذه المقاربة؛ أولها أنْ لا أحد في الدنيا، حتى في الدول التي لا تزال في عهدها الحضاري، لا يهدف أو يرجو أو يسعى إلى أن يكون حرّاً، فهذه مرحلة قد وصلت إليها، بل تجاوزتها، المخلوقات التي هي دون مستوى الإنسان. وثانيها أن الشعوب في الدول التي غادرت دُور الحضانة السياسية وبدأت رحلة الأخذ بالمفهوم الحديث للدولة، قد بدأت في عملية بناء شيء من الفكر السياسي المُعْتَمِد أولاً، وفي الأساس، على صيانة الحريات العاّمة للأفراد. وهنا لا ننكر أن هذه الشعوب قد وصلت إلى مستويات متقاربة من امتلاك هذه الحريات، لذلك راح البعض يكافح في سبيل تحقيق الحدود الأعلى من الممارسات الحرّة، ومن امتلاك السيادات شبه المطلقة. وثالثها أن هناك شوارع رئيسية وفرعية في الدول قد بدأت تعجّ بتيارات مُدْرِكة تماماً ما تريد، وتعرف بشيء من التفصيل مكوّنات خارطتها الفكرية والسياسية والاجتماعية.
هذه المراحل، التي تقودنا إلى الاقتراب من الفهم، يجب أن تكون مهيأة ومعبّدة وقادرة على تحمل الضغوط والاستحقاقات والتداعيات، وحتى يتحقق ذلك لا بد من فهم الخطوات واحدة واحدة، ولا بد من وضع الأسس والبنى القادرة على تحمل البناء العام للإدارة المطلقة والجمعية، وإلاّ فإن البديل هو انفجار الممكن والمتاح، وبالتالي الدخول في إحدى حالتين إما عَتَهٌ سياسي، وإما فوضى يسهل التحكم بها من قبل أصحاب الالتزامات والأجندات والمصالح التي هي غالبها ضد مصالح الناس.
ومن هنا تبدأ المقاربة التي أردت أن أتناول فيها الرؤية التي استقرت في خاطر الكثيرين منا، وهي ما تعلق بمفردات الحراك الأردني من حيث دافعه ومساعيه وأهدافه وبرامجه ونتائجه إلى الآن وشعاراته وأفكاره. ولما كان هذا يحتاج إلى ساعات طويلة من المناقشة والمدارسة والمطالعة والقراءة والتحليل، ويحتاج كذلك إلى مشاركة مجموعات كبيرة من أهل الفكر والسياسة والعلم والتجربة يرافقهم أصحاب المطالب والحقوق، لما كان ذلك فإن هذه المداخلة ستجيء في حدود ضيقة جداً وهي كيف يصنع حراكنا شعاره، هل هو يعتمد على منهجية واضحة ودراية بالمطالب الجمعية للناس، أم أن كل عصبة تذهب وراء من يضع لها الشعار فتتحول إلى مُدَافِعةٍ عنه، أي أن الآية تنقلب، فبدل أن ينطلق الشعار من الفكر، فإن الفكر يغدو تابعاً للشعار يصنعه ويقولبه كيف يشاء!!
والسؤال الثاني الذي يفرض ذاته، هو ألم يتحقق إلى الآن شيء من مطالب الناس، فإن كان كذلك فلماذا نعود كل مرّة إلى المربع الأوّل من النداءات والشعارات؟ وإن بقي الأمر على هذه الشاكلة فإننا سنجد هذا الحراك قد تآكل بعد أن راح يجتر ما أدخل في فكره في غيبوبة، أو على الأقل سنجده يعاني من عدم القدرة على التوازن.
كل هذا لا ينفي أنّ ما جرى، وما يجري، في الشارع الأردني قد حرّك الكثير من الجمود، وقد فتح الأعين على كثير من الحقائق، إلا أن طريقة التعامل مع تطور الأحداث قد ضل طريقه، وبالتالي تولدّ هناك خوف مُبرر من أنْ يفقد هذا الحراك اتجاهه ويذهب إما إلى الفوضى وإما إلى ضياع الهوية، وهذا يعني سيطرة الضبابية وعدم وضوح الرؤية، وبالتالي الانحدار نحو الموات.
شعاراتنا وهتافاتنا ومطالبنا ونداءاتنا يجب أن تسير كلها في نسق واحد هدفه الإصلاح، ولكن يجب أن يتم الأمر عن طريق وضع البرامج والخطط، والبدء بتنفيذ ذلك ضمن مساقات موضوعية وعلمية أساسها الحوار بين مكونات المجتمع كلها المرتكزة على توافقية ثنائية السلطة والشعب وتشاركهما في صنع القرار.
الراي