نتناول في هذه الصفحة امارة الكرك الايوبية التي صمدت في وجه الصليبيين والتتار ووقفت ندا لدولة المماليك في القاهرة ، وناكفت الكرك القاهرة وكادت ان تنتزع الزعامة منها لولا ان الحرب خدعة ، فاسقطت لصالح دولة المماليك .كان يوم الجمعة 12 شعبان 626هـ 6 تموز 1229م ايذانا بمولد إمارة الكرك الايوبية ، في ظل الناصر داوود ، بكامل حدود الأردن الحالية ، مضافا اليها نابلس والقدس والخليل . فقد تمكن الناصرر داوود من إعادة القدس سنة 637هـ 1239م بعد عشر سنوات من الاحتلال لدى الصليبيين . فقد تمكنت جيوش إمارة الكرك الأيوبية من تحرير اهذه المدينة المقدسة .
وعندما مات الملك الصالح نجم الدين أيوب في مصر سنة 647هـ 1249م تولت الحكم زوجته شجرة الدر . وجعلت ابنها تورانشاه وليا للعهد . وحكمت بمساعد المملوك عز الدين أيبك التركماني من المماليك البحرية ، ثم تزوجت من أيبك ، وتنازلت له عن الملك بعد ثمانين يوما من توليها السلطة .
وفي سنة 648هـ 1250م اعتلى عرش الكرك المغيث عمر ، وكانت وكانت امارة الكرك تضم البلقاء والكرك والشوبك ، اما عجلون والصلت فقد انتزعهما الناصر يوسف صاحب دمشق .
وفي سنة 655هـ 1257م تآمرت شجرة الدر مع غلمانها وجواريها على قتل زوجها عز الدين أيبك سلطان مصر . ثم ما لبث ان قتل المماليك شجرة الدر . وفي هذه الأثناء جاء التتار إلى البلاد وقضوا على الخلافة العباسية في بغداد سنة 656هـ 1258م .
وقد اتصل الملك المغيث عمر أمير الكرك بالتتار لالتماس أمان من هولاكو ، فقد أرسل المغيث ابنه الملك العزيز فخر الدين ، فاجتمع فخر الدين بهولاكو بمدينة تبريز قاعدة أذربيجان ، فوافق هولاكو وسير معه قوة توصله إلى الكرك . وحاول الملك الناصر يوسف الوقوف بوجه التتار إلا انه فشل ، فترك دمشق وهرب ملتجأ إلى البلقاء ، فتسلمها نواب هولاكو ، ثم قبض التتار عليه وقتل بعد عين جالوت . الا ان الملك المظفر قطز تحرك من مصر إلى الشام وقابل قوات التتار في عين جالوت في سنة 658هـ 1260م . وانتصر عليهم في اشهر معارك التاريخ . وقد أرسل المغيث عمر قوات الكرك للمشاركة في عين جالوت . فأبقى قطز المغيث عمر على الكرك والشوبك وانتزع منه الصلت والخليل .
وبعد قطز تولى السلطنة في مصر الملك الظاهر بيبرس . وكان قد عاش فترة من الوقت في الكرك ، فكان اول ما قام به ان رمم بناء قلعة عجلون وزاد في أبراجها ، وحصنها وولى عليها الأمير عز الدين أيبك العلائي ، ورمم قلعة الصلت وحصنها ، واقر فيها نائبها بدر الدين محمد بن الحاج ، وتطلع للسيطرة على الكرك ، لأنه على علم بتطلع المغيث صاحب الكرك للسيطرة على مصر ، والإطاحة بعرش المماليك .
وفي سنة 659هـ 1261م أرسل بيبرس قوة بقيادة الأمير بدر الدين الايدمري ، وأمره بالتوجه إلى الشام دون أن يحدد له هدفا ، ثم أرسل من يبلغه التوجه إلى الشوبك وانتزاعها من المغيث عمر ، وقد استسلمت الشوبك بواسطة الإغراء بالمال والتهديد بالسلاح ، فعين بيبرس الأمير سيف الدين بلبان المختصي نائبا للسلطنة في الشوبك وقرب أهلها ، فرد المغيث عمر بان أرسل للشهرزورية في مصر بالقدوم إلى الكرك ، ثم اخذ يغزو بهم القاهرة العديد من المرات . فجرد السلطان بيبرس حملة بقيادة الأمير جمال الدين المحمدي إلى الكرك إلا أنها فشلت ، ثم أرسل الملك المغيث أمير الكرك إلى الخليفة الحاكم بأمر الله ثاني خلفاء بني العباس بالقاهرة يطلب منه التوسط لحل الخلاف بينه وبين بيبرس ، فوافق بيبرس على أن يعيد المغيث الشهرزورية إلى القاهرة فعادوا وعفا عنهم ، واقطع بيبرس العزيز ابن المغيث عمر بلدة "ذيبان" شمالي الكرك ، بعد أن كان اعتقله في دمشق بعد عودته من رحلة الأمان مع هولاكو ، وتم الصلح بين الكرك والقاهرة .
وتوجه السلطان بيبرس إلى الشام بنفسه وبنيته احتلال الكرك ، في سنة 661هـ 1263م مع انه أعلن توجهه إلى الطور ، فأرسل المغيث عمر والدته إلى بيبرس للتأكد من نواياه ، حيث ان لها حظوة عند بيبيرس ، فأكد بيبرس لها الاحترام وعبر عن رغبته الاجتماع بولدها المغيث ، وأرسل معها من الأمراء من يخدمها ، فقام الملك المغيث بالتوجه إلى الطور للقاء بيبرس ، بعد أن استخلف ابنه العزيز فخر الدين بالكرك ، وقد كتب بيبرس للمغيث وهو في طريق إليه شعرا يقول فيه :
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ==== بأكرم من مولى تمشى إلى عبد
وقد وشى المماليك للمغيث بان بيبرس ينوي الغدر الا ان المغيث لم يلتفت للتحذير لليمين القاطع الذي حلفه بيببرس واشهد عليه الشهود ، وقد استقبل بيبرس المغيث استقبالا كبيرا ، إلا انه لما تمكن منه أمر بالقبض عليه وحبسه من فوره ، وأعلن انه قبض عليه لاتصاله بالتتار ، وجمع العلماء فأفتوا بقتله ، فأرسله إلى القاهرة وسجنه في القلعة ، ثم قتل فيها غيلة . ثم توجه بيبرس إلى الكرك ومنى أهلها فاضطروا للتسليم ، فقد سلم الملك العزيز مفاتيح الكرك للسلطان بيبرس ، فأكرم بيبرس أبناء المغيث عمر ، وكتب ثلاثمائة منشور لعربان الكرك وشرقي الأردن يتقرب اليهم ويمنيهم ، وجعل الأمير عز الدين أيدمر الاستادار نائبا له في الكرك ، من البلقاء شمالا إلى العقبة ، وقرب أمراء العربان من بني مهدي وبني عقبة ، وأمر بتجديد مزارات الصحابة وشهداء مؤتة ، ثم توجه إلى القاهرة ومعه أبناء المغيث وحريمه وأخوته ، إلا أن الملك السعيد بن بيبرس سجن العزيز بن المغيث ، إلى أن أخرجه الملك الأشرف خليل بن قلاوون ، سنة 690هـ 1291م بعد سجن دام 20 عاما . وبذلك تم القضاء على إمارة الكرك الأيوبية في آخر معاقلها الكرك بعد أن دامت 42 عاما.
يقول ابن الأثير عن الأيوبيين : " ولعمري إنهم نعم الملوك ، فيهم الحلم والجهاد ، والذب عن الإسلام ".