من ذاكرة الوطن .. الشيخ كايد مفلح العبيدات
د. محمد العناقرة
19-03-2012 04:02 PM
أول شهيد أردني على أرض فلسطين
إن الحديث عن الشيخ كايد مفلح العبيدات هو حديث عن رمزاً وطنياً من رجالات الرعيل الأول كونه يُعد أول شهيد أردني على التراب الفلسطيني عام 1920، هو حديث عن الوطن عن ترابه المقدس عن أرضة الطاهرة المروية بدم الأبطال جيل القيم والمبادئ والثوابت، هو واحد من الجيل المبكر الذي كان له شرف الوعي بالقضايا القومية والوطنية هذا الجيل الذي تربى على حب الوطن من خلال علاقات نضالية مبنية على الفهم الاستراتيجي للقضايا القومية بشكليها العام والخاص.
ولد الشيخ كايد العبيدات في قرية كفرسوم عام 1868 في بيت متواضع أطلق عليه أهالي المنطقة فيما بعد لقب دار الشيوخ وتربى في كنف والده الشيخ مفلح وإخوته الكبار ومنذ السنوات الأولى بدأت عليه علامات النضوج وسرعة البديهة لذلك بُشر والده أنه سيكون ذا شأن. وفعلاً عندما كان في العاشرة من عمره حفظ القرآن الكريم بالإضافة إلى أنه كان يتمتع بخط جميل أثار إعجاب كل من كان يشرف على دراسته، أو من كان يطلع على سيرته اليومية. إن القيادة والزعامة هبة من الله لذلك كان هذا الرجل يتمتع بمواهب قيادية منذ أن كان في العشرين من عمره و اطلع على مجموعة من القضايا التي كانت تدور في بلاد الشام.
تلقى الشيخ كايد المفلح العبيدات تعليمة في الكتاتيب وكانت عائلة العبيدات تهتم بالكتاتيب ودراسة القرآن الكريم، والحساب والدراسات الأولية للقراءة والكتابة هذه الدراسة يستفيد منها البعض في مكافحة أميته والبعض الأخر قد تكون البداية لصقل شخصية لذلك معظم الزعامات الوطنية في كل بلاد الشام، كانت ثقافتهم التعليمية في الكتاتيب، فمجموعة من الزعماء كانت دراستهم في الكتاتيب ولكن كان عندهم الوعي بقراءة التاريخ العربي، والشيخ كايد يُعد شخصية مهيبة نافذة وزعيماً مرموقاً في ناحية لواء بني كنانة.
الشهيد كايد عندما كان في العشرين وحتى في سنوات عمره ما قبل العشرين كان يتابع الدراسات التاريخية ويقرأ عن الفتوحات العربية وتقمص شخصيات كثيرة كانت في ذاكرته مثل خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي، هذه الشخصيات عززت الوعي الفكري والوعي النضالي في شخصيته فهو يمثل جيلاً أفرز قيادات تعاهدت أن تكون ثقافة المجتمع الوطني على مستوى المنطقة ثقافة وطنية ومجموعة من العوامل التي أدت إلى صقل هذه الشخصيات لتقوم ببث الوعي القومي في نفوسهم. وقد وعوا ثورة عام 1905 التي حدثت في منطقة الشوبك ومنطقة وادي موسى والثورة التي انطلقت في شمال الجزيرة العربية عام 1908 والشيخ كايد تأثر بهذه الثورة خصيصاً لأنها ثورة تخص عائلته وهي ثورة آل علي تعود بالنسبيه إلى عائلة العبيدات هم الذين قاموا بثورة شمال الجزيرة العربية وجنوب الأردن ونتيجة هذه الثورة نزح كثير من فروع العائلة إلى مناطق حوران والجولان.
في عام 1910 كان هناك تأمر كبير بثورة الكرك بقيادة الشيخ قدر المجالي وكانت هذه الثورة بداية انتشار الوعي القومي والشعور بالظلم والقهر من قبل الأتراك، وخاصة أن هذه الثورة جاءت على خلفية ثورة أو انقلاب على السلطان عبد الحميد الذي كان له علاقة جيدة مع العرب والمسلمين لكن عندما جاء هذا الحزب عام 1908 وقضى على السلطان عبد الحميد بدأ هؤلاء المشايخ بطرح الفكر القومي وبدأت علاقات مع زعماء بلاد الشام من خلال الجمعيات السرية مثل الفتاة وغيرها فكان الشيخ كايد من بين الأسماء التي رشحت من قبل زعماء بلاد الشام ومن قبل زعماء النهضة العربية وبمقدمتهم أحمد مريود ومجموعة من الشخصيات التي كان لها دور كبير في النهوض وتشكيل الجمعيات السرية، والبداية في عملية التنظيم السياسي كان في عام 1914 عندما جاء جمال باشا السفاح إلى منطقة سوريا.
وقد تحدث المؤرخ محمود عبيدات عن الشيخ كايد المفلح وتأثره بوالده وشخصيته قائلاً: مؤسس عشيرة العبيدات في منطقة كفرسوم هو الشيخ فندي وهو أول من قاد ثورة ضد الأتراك عام 1786 هذه الثورة جاءت في منطقة بني كنانة وحصرياً في كفرسوم بالذات لأن الأتراك حاولوا قطع جميع الأخشاب الموجودة في الغابة فرفض الشيخ فندي ذلك وثارت المنطقة وألقت السلطات العثمانية القبض عليه وحكمت عليه بالإعدام ونقلته إلى سجن طبريا، وفي هذه الفترة كانت الحكومة التركية بحاجة إلى أسلحة وبواخر اتفقت مع الحكومة الألمانية على شراء هذه المعدات وباعتبار خزينة الدولة لا تستطيع إيفاء هذه الديون وشراء أسلحة عرضت على عائلات المحكومين بالإعدام أن يأتوهم بالمال فقامت عشيرة العبيدات بفدو الشيخ فندي بخرجين من الذهب هذه الحادثة شكلت عند الشيخ حوافز ودوافع ليكون الوريث الشرعي للثورة، وعندما تسلم المشيخة الشيخ مفلح العبيدات كان من الشخصيات المكلفة من السلطات العثمانية بإفراز الأراضي وبعملية الإشراف على المنطقة بقرار من السلطان.
وكان الشيخ مفلح العبيدات عضواً في المجلس القضائي وكان عضواً في ولاية دمشق والشيخ مفلح عندما وصل إلى سن متقدم كان عنده تسعة أو عشرة أولاد من الشخصيات المميزة ولكن كانوا موزعين في أعمال متنوعة الشيخ كايد كان يتميز عنهم أن ثقافته سياسية وتاريخية لذلك أجمع أخوته أن يكون هو المرشح من قبل السلطات العثمانية ليكون زعيم العشيرة وزعيم منطقة الكفارات بالإضافة إلى عضويته في مجلس القضاء وهو أوسط إخوانه.
الشيخ محمود كان من زعماء وشيوخ المنطقة ويحمل وثيقة من الوالي التركي أنه شيخ وزعيم وما شابه ذلك لكن اخوته أجمعوا على أن الشيخ كايد له روح قيادية وشخصية قيادية بالإضافة إلى علاقاته مع كليب الشريدة وسليمان السودي وكانوا زعماء عشائر وبمثابة أمناء عامين في أحزاب سياسية وكانوا يقودون الحركة الوطنية النضالية من خلال اتصالاتهم مع الجمعيات السرية التي كان مركزها في اسطنبول ثم انتقلت إلى بلاد الشام.
شكلت إعدامات جمال باشا السفاح الشيء الكبير في نفوس أهالي المنطقة وأصبحت تعيش حالة الهم الوطني والهم القومي ولم تكن فقط على مستوى المنطقة فحسب. وقد شكل الشيخ كايد واخوته ومجموعة من رجالات الرعيل الأول مجلساً استشارياً وهذا المجلس هدفه هو تحمُل مسؤولية نقل المجاهدين والثوار، فكان ليس هماً وطنياً في دائرة الأردن أو دائرة منطقة الشمال أو في دائرة الجنوب السوري في ذلك الوقت إنما كان هماً قومياً تجاوز حدود الإقليمية والمناطقية ووصل إلى منطقة الحجاز.
أما عن تأثير كايد مفلح العبيدات في نفوس عائلة العبيدات فقد تحدث المهندس صائب عبيدات قائلاً: عندما نتحدث عن الشيخ كايد المفلح العبيدات فإننا نعني الروح الوطنية وقداسة التراب الوطني والثبات بالقمم عن طريق التمسك بها، هو حديث عن التضحية هو حديث عن معاني وحدة الارض الإسلامية.
أتكلم بكل اعتزاز عن جدي الشهيد لأن أفعاله مثار للإعتزاز لكل عربي يعشق الوطن ولا يقبل الذل والخضوع للظلم والعدوان، وعندما نستذكر الشهيد وهو مَن علق على صدرنا جميعاً وسام العز والشرف وقدوته السير في الدروب الوعرة على أن يعيش في ظل الاحتلال. هذه الأمانة التي حملنا إياها الشهيد وهي ليست سهلة ولكننا إن شاء الله على الدرب سائرون. نحمل الهم القومي والإسلامي وننظر لكل ما يجري في هذه الأيام مستذكرين الماضي.
أما عن طبيعة العلاقة بين الطبيعة الجغرافية وأثرها بتكوين شخصية كايد المفلح فقد تحدث المؤرخ محمود عبيدات قائلاً: الشيخ كايد المفلح من الشخصيات المهتمة بالتاريخ العربي وقرأ جيداً شخصية خالد بن الوليد الذي قاد معركة اليرموك وحقق الانتصارات، وموقع معركة اليرموك لا يبعد عن مكان مولد الشهيد كايد أكثر من ثلاثة كيلومتر.
حتى في معركة اليرموك كانت منطقة كفرسوم مركزاً للجيوش هذا حديث شيوخ المنطقة عندما يشعرون بالظلم التركي يتذكرون أن دم الشهداء سال على أرضهم فيثور عندهم حافز قومي لذلك معركة اليرموك كانت ضمن الحوافز التاريخية وكانت تشكل فاتحةً للجهاد.
وبالرغم أنه كان يسود في تلك الأيام ضحالة التعليم وصعوبة الوصول للمعرفة إلا أنه بميزاته كان لديه وعي بما يجري وكان يرسل الكثير من المندوبين للحصول على معلومات، والشهيد بطبعه وحسه القوي والإسلامي يفضل أن يكون تحت مظلة حكومية إسلامية على أن يكون هناك استعمار بريطاني وفي النهاية ظهرت بوادر الثورة العربية الكبرى على يد الشريف الحسين بن علي، ولكن الاستعمار كان يحمل بين طياته الغدر والنية السيئة.
وفيما يتعلق بموقفه من الثورة العربية الكبرى فقد كانت منطقة الشمال الأردني محايدة لأنه كان الهدف الاستراتيجي هو تحرير منطقة الجنوب ثم التوجه إلى منطقة حوران وثم الدخول إلى منطقة دمشق، لذلك منطقة الشمال منطقة ساقطة عسكريا لأنها قريبة لفلسطين. لذلك كانت العلاقة مبنية من خلال شخصيات في الشمال لهم علاقة بالجيش الفيصلي أو جيش الثورة العربية الكبرى الذي بدأ في عام 1917.
بدأ التواصل الجيد مع الأمير فيصل وبخاصة عام 1919 وتعزز هذا الموقف عام 1920 عندما توج الملك فيصل ملكاً على سوريا الكبرى وكان الأمير فيصل يقول للشيخ كايد: منطقة عجلون أمانة في عنقك، وقال له بأنني أرى أن هذه الدولة الفتية لم يسمح لها حتى بالحبو لأن المؤامرة كبيرة. والمؤامرة تصل ليس إلى منطقة بلاد الشام بل إلى العراق والهلال الخصيب، كان هذا الوعي السياسي في كشف المؤامرة وتقسيم بلاد الشام يلوح بالأفق، وكان الشيخ العبيدات على علاقة مع اللواء علي خلقي الشرايري، والشهيد كايد جمع حوالي 120 مجاهد اشتركوا بثورة الجولان بالاتفاق مع علي خلقي الشرايري وأحمد مريود ومحمود الفاعور، وعندما كان عام 1920 كان قراره حاسماً قال أنه يجب أن نمنع هذا الحلف الفرنسي البريطاني في تقسيم بلاد الشام إلا على أرواحنا.
وقد كان للشهيد مكانة كبيرة في نفوس أهله وأقاربه والتف حوله العديد من المجاهدين ووضع الاستراتيجيات والخطط التكتيكية وكان يفكر بأن الإنسان يجب أن يعيش على أرضه بكرامة وعزة، ولكن كانت يد الغدر من خلال الطائرة التي ضربته فسقط شهيدا على ثرى فلسطين، وذلك في أول هجمة أردنية ضد قوات الإحتلال البريطاني في منطقة تلال الثعالب في فلسطين.
وقد كانت هناك رؤى واضحة أنه لا بد من خوض معركة لإثبات أننا لسنا أمة ساكنة، بل نحن أمة تستطيع أن تقاوم وتجاهد، أيضا هو جمع شيوخ عشائر العبيدات وقال لهم أن قدرنا أن نجاهد، وأجمعت شيوخ العشائر عليه بالكامل.
وانتقل إلى عدة مناطق وتم الاتفاق مع ناجي العزام وعُقد المؤتمر في قم وكلف الشيخ بأن يقود هذه المعركة باعتبار أن الأغلبية من الجيش كانوا من منطقة بني كنانة وفعلا تحركوا من كفرسوم ووصلوا إلى منطقة أم الثعالب، وكان في إتفاق مع مجموعة من الضباط أن يستسلم هؤلاء الجنود للإستيلاء ثم على الأسلحة والهجوم على المستوطنات البريطانية، لكن المفاجآت كانت تختلف عن التوقعات، كانت مرحلة شديدة والوثائق البريطانية تقول أن الشيخ كايد أسقط طائرة بريطانية وجرح الطيار. ومن هنا كان الحقد البريطاني بأن تكون المعركة حاسمة وحسمت المعركة لصالحهم.
وقد كان الشيخ كايد يستحق الشهادة وكان ملاذاً لأحرار الوطن العربي، والشهادة مسك الختام للمسيرة وبث بذرة الحرية في الأجيال. واستشهاد الشهيد كايد نحن نعتبره جزءاً هاماً من ثقافتنا الوطنية والقومية. ويقول الشهيد كايد المفلح العبيدات أن الموت من حقوق الله فالحق أن تموت من اجل الله والوطن وأشرف أشكال الموت أن نموت على تراب فلسطين.